في رحلتي الأولى التي ما زالت تكشف لي عن التطور التكنولوجي والبنية التحتية الفائقة، أشعر أنني بحاجة إلى فهم أعمق لدورها في الاقتصاد العالمي. وعبر التعمق أكثر في الأرقام والسياسات، ومواقع تعكس قوتها الحقيقية: موانئها العملاقة، مصانعها الذكية، وأسواقها المالية وفهم البعض من أعلامها الذي لا ينطق غالباً جداً إلا بلغته!
من شنغهاي إلى غوانجو، ومن شنتشن مروراً بجنين إلى بكين، يمكن رؤية كيف تدير الصين اقتصادها على مستوى عالمي، وكيف تتعامل مع التحديات التي قد تعرقل هذا الصعود.
⁃ إعادة رسم خريطة الاقتصاد العالمي
واحدة من أكبر الأدوات التي استخدمتها مبكراً لترسيخ قوتها الاقتصادية هي مبادرة الحزام والطريق، والتي أطلقها الرئيس شي جين بينغ عام 2013. هذه المبادرة ليست مجرد مشروع بنية تحتية، بل إستراتيجية اقتصادية طويلة وضخمة تربطها بالعالم من خلال شبكة من الموانئ،، السكك الحديدية، والمناطق الصناعية تنطلق من أرضها الأم إلى آسيا، أفريقيا، وأوروبا وحتى الأمريكتين أو إحداهما!
في ميناء غوانجو -مثلا- وهو واحد من منافذها البحرية العملاقة، وهو كذلك أحد أكبر الموانئ في العالم، تتحكم الصين في جزء رئيسي من سلاسل التوريد العالمية، يعج الميناء بالحاويات التي تحمل منتجات صينية إلى كل ركن من أركان الأرض.
وفي الوقت نفسه، تستقبل موانئها المنتشرة في بحر الصين الجنوبي مواد خام ومعادن نادرة من أفريقيا وأمريكا الجنوبية وطبعاً من آسيا وحولها، وهو الأمر الذي يعكس طبيعة الاقتصاد الصيني القائم على التبادل الضخم.
⁃ الهيمنة على الموارد.. السيطرة على المستقبل
لا يقتصر نفوذ الصين على البنية التحتية والتصنيع، بل يمتد بقوة إلى التكنولوجيا. واستخدام الذكاء الاصطناعي في كل شيء، من تحليل البيانات الضخمة إلى تطوير أنظمة الدفع الذكية إلى النقل وأنظمة الدفاع والأسلحة.
ورغم تصدرها اليوم العديد من المجالات التكنولوجية، يبقى التحدي الأكبر الذي تواجهه هو العقوبات الغربية ومحاولة الولايات المتحدة الحد من سرعة تقدمها.
ولكن رغم بعض العقوبات الأمريكية، والضرائب الإضافية المعلنة والمتوقعة، ومن ذلك العقوبات المشددة على قطاع أشباه الموصلات - مثلاً، تعمل بكين على تجاوزها عبر إستراتيجيات متعددة، أبرزها الاستثمار الضخم في التصنيع المحلي، حيث ضخت مليارات الدولارات في شركاتها محرضة إياها على إنتاج رقائق بحجم 7 نانومتر وأصغر لتتفوق محلياً على أي قيود دولية.
كما اعتمدت على إعادة تدوير المعدات، بشراء معدات قديمة من أوروبا واليابان وتطويرها داخلياً لتعويض نقص التقنيات الغربية. إضافة إلى ذلك، ركزت الصين على البحث والتطوير في الذكاء الاصطناعي، حيث طورت شركاتها ومختبراتها، معالجات متقدمة باستخدام تقنيات بديلة لا تعتمد على الموردين الأمريكيين. ولمواجهة القيود المفروضة على سلاسل التوريد، عززت الصين تحالفاتها مع دول لضمان تدفق المواد الأساسية، مثل السيليكون والنيون. كما سعت إلى تطوير برامج تصميم الرقائق محلياً، عبر استبدال برمجيات EDA الأمريكية بمنصات محلية، مما قلل من اعتمادها على التكنولوجيا الغربية. هذه الخطوات مجتمعة وضعتها على مسار تحقيق الاكتفاء الذاتي في أشباه الموصلات بحلول 2030، بل إن هذا الأمر هو ما يحدث الآن تقريباً، مما يعزز استقلالها التكنولوجي.
- البحث عن المعادن النادرة في الفضاء!
أثناء البحث عن أسباب التفوق التكنولوجي، وجدت أن أحد أسرار قوتها هو عملها المبكر لتأمين حاجاتها وأكثر من المعادن النادرة، مثل الليثيوم، الكوبالت، والنيوديميوم، وهي عناصر أساسية في صناعة الهواتف الذكية، السيارات الكهربائية، والتكنولوجيا العسكرية.
الصين تسيطر على 80% من إنتاج العالم من هذه المعادن، مما يجعلها لاعباً رئيسياً في سوق التكنولوجيا الخضراء، وفي مراكز أبحاثها تستثمر في استخراج وتكرير هذه المعادن، مما يمنحها تعبئة مواردها وكذلك قوة تفاوضية هائلة أمام الغرب المتعثر.
تسعى بكين إلى تعزيز ريادتها في استكشاف الفضاء من خلال خطط طموحة للتنقيب عن المعادن الثمينة من الكويكبات، وذلك ضمن إستراتيجيتها طويلة الأمد لتعزيز أمنها الصناعي والتكنولوجي. ترتكز على:
* بعثات استكشاف الكويكبات: إذ تعمل على تطوير مهمات فضائية متقدمة، مثل مهمة Tianwen-2، التي تهدف إلى استكشاف الكويكبات القريبة من الأرض وتحليل تركيبتها المعدنية.
* تطوير تقنيات التعدين الفضائي: تستثمر في تقنيات متقدمة لاستخراج المعادن من الكويكبات، بما في ذلك الروبوتات ذاتية التشغيل وتقنيات الحفر الليزري والمعالجة في الجاذبية الصغرى، مما يسهم في استخراج معادن نادرة مثل البلاتين والإيريديوم والنيكل، الضرورية لصناعة أشباه الموصلات والطاقة النظيفة.
* إنشاء محطات معالجة فضائية: تدرس الآن بناء محطات معالجة معدنية على القمر أو في المدار الأرضي، حيث يمكن فصل المعادن وإرسالها إلى الأرض، مما يقلل التكاليف اللوجستية المرتبطة بإعادة المواد الخام.
* الشراكات الدولية: رغم المنافسة،، تسعى لتوسيع تحالفاتها الفضائية من خلال التعاون مع روسيا ودول مجموعة بريكس، بهدف تبادل التكنولوجيا والخبرات في مجال التعدين الفضائي.
* دعم القطاع الخاص: تشجع شركاتها الناشئة على الاستثمار في التعدين الفضائي، مع تقديم حوافز مالية ودعم حكومي، مما يسرّع من تطوير تقنيات مبتكرة تدعم طموحاتها الفضائية.
تضعها هذه الجهود في موقع متقدم لتحقيق ثورة في الموارد المعدنية، مما يعزز مكانتها كقوة اقتصادية وتقنية عالمية قادرة على تأمين احتياجاتها المستقبلية من المعادن الإستراتيجية من خارج كوكب الأرض!
- الصعود والتحديات.. هل النمو مستدام؟
رغم كل هذا التقدم، لا تزال بكين تواجه تحديات داخلية وخارجية يمكن أن تعيق استمرار صعودها، من أبرزها:
- أزمة الديون: الدين العام ارتفع إلى 90.1% في عام 2024. من الناتج المحلي الإجمالي.
الديون تُعد تحدياً كبيراً لكل الدول الكبرى والناشئة ولأكبر ٢٠ اقتصاداً في العالم، وهي هنا ليست أزمة حادة بعد، إذ إن الحكومة تمتلك أدوات قوية للتحكم بها. صحيح أن الدين العام والخاص مرتفع، خصوصاً في قطاع العقارات والشركات الحكومية، لكن الصين تعتمد على نمو اقتصادي قوي وتدخلات حكومية مستمرة للحفاظ على الاستقرار المالي.
التحدي الأكبر يكمن في ديون الحكومات المحلية، التي زادت بسبب الإنفاق على تأسيس وبناء البنية التحتية الضخمة والتى يمكنك مشاهدتها في القرى الصينية الضخمة والأرياف الكبرى على أراضيها الشاسعة، مما دفع بكين إلى إعادة هيكلة بعض الديون وتحفيز الاستثمارات.
ومع ذلك، فإن السيطرة المركزية القوية، والاحتياطات النقدية الضخمة، والسياسات النقدية المرنة، تساعد في احتواء المخاطر، مما يجعل الوضع مقلقاً بعض الشىء، إلا أنه بالتاكيد ليس كارثياً أبداً، وهي أقل بكثير من أزمة اليابان والولايات المتحدة الأمريكية بل إن ديونها تعد في معدل طبيعي، بل وأقل مقارنة مع كل اقتصادات أوروبا. وقد حددت مستهدفها لنمو الناتج المحلي الإجمالي لهذا العام عند حوالى 5%، وهو رقم لا يمكن لاقتصادات عالمية الوصول إليه، إذ تعمل على تعبئة الإيرادات المحلية لتعزيز القدرة على مواجهة الصدمات الخارجية.
- البطالة والابتكار!
البطالة الشبابية: وصلت إلى أكثر من 5% في 2025، مما يعكس تحدي سوق العمل الضخم أمام عدد السكان الذي يقترب من 1.5 مليار إنسان، وهي تعالج مشكلة البطالة من خلال إعادة هيكلة الاقتصاد نحو الابتكار والتكنولوجيا، ولزيادة الاستثمارات في القطاعات المتنامية مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة. كما تدعم ريادة الأعمال عبر تسهيلات ضريبية وقروض ميسرة، وتوسع برامج التدريب المهني لمواكبة التحولات الصناعية. إضافةً إلى ذلك، تعزز التوظيف في المناطق الريفية عبر مشاريع البنية التحتية والتصنيع المحلي، وتوسع الاقتصاد الرقمي لتوفير فرص عمل جديدة.
⁃ نموذج التصنيع الفائق الدقة!
من الملفت في زيارات متتالية لأكثر من مصنع في مدن تعتبر بالمقاس الصيني صغيرة، لكن مساحتها مقارنة بالعالم كبيرة وتعدد سكان أصغرها يتجاوز الـ٢٠ مليوناً، هذه المدن الصغيرة بمقياس الصين الضخم في كل شىء تقريباً، تتخصص في صناعات مختلفة تجعل التنمية حولها والمشاريع ظاهرة للعيان وتستقطب آلاف العاملين من الأرياف والقرى المحيطة.
إنها حالة صينية خاصة تدخل في تخصص التخصص حيث تجد مصانع متخصص في انتاج وحدة معينة هى جزء من منتجات دقيقة محددة، لكنها تشكل جزءاً من مكينة التصنيع الشاملة التى تجتمع في شكل منتجات نهائية، حيث تصنع وحدات صغيرة في مصنع متخصص بقرية أو مدينة ثانوية لترسل إلى المصانع الكبرى التي تنتج الآلات، السيارات وغيرها كمنتج نهائي، إضافة لتصدير هذه القطع منفردة للعالم، ومنها تاتي الدقة في الإنتاج والجودة والبحث والتطوير في أجزاء المنتج النهائي، أي منتج يمكن لك أن تتخيله.
أصبحت هذه المصانع مركزاً للعمالة المهارة والمنضبطة في كل شيء تقريباً من الهواتف الذكية إلى سفن النقل العملاقة الأضخم عالمياً وحالياً الطائرات المدنية والعسكرية.
⁃ تباطؤ السرعة لا يعني التوقف!
بعض التحديات «قد» تثير التساؤل حول ما إذا كانت قادرة على الحفاظ على زخمها الاقتصادي أم أنها ستواجه تباطؤاً في المستقبل.
بعد بعض هذه المشاهدات، يبدو واضحاً أن الصين ليست مجرد اقتصاد نامٍ، بل قوة عظمى تعيد تشكيل النظام الاقتصادي العالمي. من مبادرة الحزام إلى هيمنتها على التكنولوجيا، ومن سيطرتها على الموارد إلى استثماراتها في الطاقة المتجددة، إلى كثافة ودقة التصنيع والعمالة الماهرة الدقيقة.
من هنا تعمل على بناء نظام اقتصادي جديد قد يجعلها القوة العظمى الأولى في العالم الآن، وقريباً بلا منازع أو منافس فعلي.
لكن يبقى السؤال: هل ستتمكن من تجاوز التحديات الداخلية والخارجية؟ أم أن العوامل الديموغرافية والجيوسياسية ستحد من صعودها؟
التالي: المستقبل والسيناريوهات المحتملة للقيادة والاقتصاد الكوني.
أخبار ذات صلة
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.