لطالما تعهّد "دونالد ترامب" بإعادة المصانع والوظائف إلى أمريكا، واضعًا شعار "أعيدوا عظمة بلادنا" في قلب سياساته الاقتصادية، فمنذ ولايته الأولى، شنّ حرب رسوم جمركية على الصين وأعاد التفاوض على اتفاقات تجارية، بدعوى إنقاذ ما تبقّى من القاعدة الصناعية الأمريكية.
لكن في ظل استمرار تآكل قطاع التصنيع وتحوّل الصين إلى "مصنع الكوكب"، يبقى السؤال مطروحًا: هل يمكن للتعريفات وحدها أن تعيد ما ضاع خلال عقود؟ أم أن "ترامب" يحاول إعادة عقارب الزمن إلى الوراء بشعارات أقوى من الواقع؟
كيف خسرت أمريكا أمام الصين؟
- شهد قطاع التصنيع الأمريكي تراجعًا طويل الأمد في التوظيف والهيمنة العالمية، حتى مع نمو نصيب العامل من الناتج، وفي السنوات الأخيرة، ركز صانعو السياسات على عكس هذا الاتجاه من خلال إعادة الصناعات من آسيا إلى الولايات المتحدة.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
- كان هذا هو محور الأجندة الاقتصادية لـ "دونالد ترامب" منذ ولايته الأولى، وحتى بالنسبة لخليفته "جو بايدن"، ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى انخفاض الوظائف في قطاع التصنيع بالولايات المتحدة إلى 12.9 مليون وظيفة من ذروته في أواخر القرن العشرين عند 19.4 مليون وظيفة.
- أدى نقل الصناعات إلى الخارج، وخاصةً إلى الصين بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، إلى تآكل القاعدة الصناعية الأمريكية، وهي صدمة تُعرف باسم "صدمة الصين".
- في حين أن الناتج الصناعي الأمريكي كان لا يزال مرتفعًا (أكثر من 5 تريليونات دولار عام 2016) ويقترب من أعلى مستوياته على الإطلاق، تراجعت قدرة البلاد في قطاعات معينة.
- انتقلت صناعات بأكملها مثل المنسوجات والملابس والإلكترونيات الاستهلاكية بالكامل تقريبًا إلى الخارج، فعلى سبيل المثال؛ أكثر من 95% من الملابس المباعة في الولايات المتحدة مستوردة، ويتم تصنيع جميع الجوالات الذكية تقريبًا في الخارج.
- انخفضت حصة الولايات المتحدة من الناتج الصناعي العالمي إلى 17% تقريبًا في السنوات الأخيرة، مقارنة بنحو 25% عام 1990، وعلى النقيض تشكل الصين الآن ما يقرب من ثلث الناتج الصناعي العالمي.
- لتوضيح كيف نهضت الصين سريعًا على حساب أمريكا، في عام 2004، شكل البلد الآسيوي أقل من 9% من الناتج الصناعي العالمي؛ بحلول عام 2023، وصلت النسبة إلى حوالي 29%، متجاوزة الولايات المتحدة بفارق كبير.
كيف ينقذ ترامب بلاده؟
- هناك نقاط ضعف رئيسية في القاعدة الصناعية الأمريكية في سلاسل التوريد الحيوية، فعلى سبيل المثال، لا تنتج الولايات المتحدة اليوم سوى حوالي 12% من أشباه الموصلات في العالم انخفاضًا من 37% في التسعينيات.
- كما تعتمد بشكل كبير على الواردات من المكونات الصيدلانية، والمعادن الأرضية النادرة، ومكونات الإلكترونيات، وقطع الآليات، وتُعدّ القدرة المحلية في هذه المجالات محدودة مقارنةً بمستويات الذروة، مما يجعل الولايات المتحدة عرضة للاضطرابات الخارجية.
- كشفت جائحة "كوفيد-19" بوضوح عن نقاط الضعف هذه، من نقص معدات الوقاية الشخصية الطبية إلى اختناقات إمدادات الرقائق، وذلك بعد عقود من الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية القائمة على نظام "الإنتاج حسب الطلب".
- باختصار، تراجعت قاعدة التصنيع الأمريكية في القطاعات التي هاجرت إلى الخارج، حتى مع استمرار صناعات متقدمة مثل صناعة الطيران أو إنتاج السيارات المحلية (بالاعتماد على سلاسل توريد عالمية)، ولا تزال العمالة في قطاع التصنيع أقل بنحو الثلث من مستويات أواخر التسعينيات.
- انتعشت وظائف التصنيع في أمريكا إلى 12.9 مليون وظيفة بنهاية 2019، ارتفاعًا من 12.4 مليون في 2016، لكنها لا تزال قريبة من أدنى مستوى لها في 70 عامًا كنسبة من إجمالي العمالة في الولايات المتحدة.
- كان ذلك ناتجًا عن سياسات "دونالد ترامب" في ولايته الأولى، حيث فرض التعريفات الجمركية، وأعاد التفاوض على الاتفاقات التجارية، وضغط بشكل عام على الشركات لإعادة أشنطة التصنيع إلى البلاد.
- في عام 2018، طالت التعريفات الجمركية الشاملة واردات صينية بقيمة تزيد على 360 مليار دولار، ومعادن حيوية، بهدف إعادة التصنيع إلى الوطن، وأدت هذه الإجراءات إلى زيادة الاستثمار المحلي في بعض المجالات.
- كما ارتفعت إعلانات التوظيف في مشاريع تصنيع جديدة (إعادة توطين/استثمار أجنبي مباشر) إلى 193 ألف وظيفة في عام 2017، من حوالي 75 ألفًا في عام 2015، مدعومةً بتخفيضات ضرائب الشركات ومناخ داعم للأعمال.
هل نجح ترامب إذن؟
- رغم الاتجاهات الناشئة الإيجابية خلال ولاية "ترامب" الأولى، أضعفت حالة عدم اليقين السياسي والاحتكاكات التجارية في عامي 2018 و2019 هذا الزخم، وانخفضت الوظائف المعلن عنها في مشاريع إعادة توطين الصناعة إلى 117 ألف بحلول عام 2019.
- ثبت أن الرسوم الجمركية المتفرقة غير فعالة في تقليص العجز التجاري أو منع نقل الإنتاج إلى الخارج بشكل ملحوظ، حيث حوّلت الشركات مصادر توريدها من الصين إلى دول أخرى منخفضة التكلفة، بدلاً من إعادة توطين التصنيع في الولايات المتحدة.
- في الواقع، اتسع عجز تجارة السلع غير البترولية في الولايات المتحدة إلى 854 مليار دولار في عام 2019، من 679 مليار دولار في عام 2016، كما تشير الدراسات إلى أن الرسوم الجمركية أثرت على التوظيف (بشكل طفيف) في قطاع التصنيع من خلال رفع تكاليف المدخلات.
- على سبيل المثال، خلُص تحليل صادر عن الاحتياطي الفيدرالي إلى أن الرسوم الجمركية التي فرضها "ترامب" ألحقت ضررًا صافياً بوظائف التصنيع في الولايات المتحدة، حيث قوبلت المكاسب في القطاعات المحمية بالرسوم الجمركية بخسائر في الصناعات النهائية.
- اكتسبت فكرة إعادة التصنيع إلى الوطن إلحاحًا متزايدًا مع الجائحة، وأبقت إدارة "بايدن" على معظم رسوم "ترامب" الجمركية، وعززت سياساتها الصناعية، بإقرار قانون الرقائق لدعم صناعة الموصلات المحلية، وقانون الاستثمار في البنية التحتية والوظائف، وقانون خفض التضخم، والتي قدمت تمويلًا ضخمًا للصناعات المحلية.
- تشير البيانات الأولية إلى ارتفاع حاد في جهود إعادة التصنيع إلى الداخل، ففي عام 2022، أعلنت الشركات عن 364 ألف وظيفة نتيجة إعادة التصنيع إلى الداخل والاستثمار الأجنبي المباشر، وهو رقم قياسي أعلى بنسبة 53% مقارنة بعام 2021.
- مع ذلك، بلغ العجز التجاري أعلى مستوى له على الإطلاق في عام 2022 (945 مليار دولار)، وبلغ عجز الميزان السلعي فقط (1.19 تريليون دولار)، مما يؤكد أن الولايات المتحدة لا تزال بعيدة عن تحقيق الاكتفاء الذاتي.
ما تفتقر إليه أمريكا؟
- تُعدّ القوى العاملة في قطاع التصنيع عائقًا رئيسيًا، فبعد عقود من التراجع، تضاءل عدد الحرفيين المهرة وعمال الإنتاج في الولايات المتحدة، وبلغت القوى العاملة في قطاع التصنيع مرحلة الشيخوخة، وغالبًا ما يفتقر العمال الشباب إلى الاهتمام أو التدريب المتعلق بالمهن الصناعية.
- تشير تقديرات، إلى أن الولايات المتحدة سيكون لديها 2.1 مليون وظيفة شاغرة في قطاع التصنيع عام 2030 بسبب التقاعد وعدم توافر المهارات، حيث وجدت دراسة أن 36% من الشركات المصنعة واجهت صعوبة حتى في شغل وظائف الإنتاج البسيطة مرتفعة الأجور.
- لا يعمل قطاع التصنيع بمعزل عن غيره، بل يتطلب منظومة متكاملة من الموردين، وعلى مدى عقود، تطورت شبكات موردين متكاملة بإحكام في آسيا (على سبيل المثال، الإلكترونيات في شنتشن أو المنسوجات في بنغلاديش).
- إذا نقلت شركة ما التجميع النهائي إلى الولايات المتحدة، فغالبًا ما يتعين عليها استيراد العديد من الأجزاء الوسيطة حتى تتطور قاعدة موردين محليًا، وهذا يتطلب وقتًا طويلًا.
- إلى جانب ذلك، تشكل الطاقة تكلفة كبيرة للصناعات التحويلية الثقيلة (الكيماويات والمعادن والزجاج)، وفي حين تتمتع أمريكا ببعض المزايا مثل أسعار الغاز المنخفضة نسبيًا قد تكون تكاليف الكهرباء في أجزاء من البلاد أعلى منها في الصين أو دول أخرى تدعم الطاقة.
- تُعدّ تكاليف المواد الخام عاملًا معرقلًا أيضًا، فالمصادر المحلية لبعض المواد (الليثيوم، والمعادن النادرة، إلخ) غير متطورة، لذلك قد يدفع المصنّعون المزيد للحصول عليها حتى تتزايد أنشطة التعدين والتكرير في الولايات المتحدة.
- يؤثر نقل الإنتاج إلى الداخل على أسعار المستهلكين، مما يؤدي عمومًا إلى ارتفاعها بالنسبة للسلع التي كانت تُصنع سابقًا في مواقع منخفضة التكلفة للغاية، فمثلًا يُعتقد أن تصنيع جوالات "أيفون" في الولايات المتحدة قد يرفع أسعارها من ألف إلى ألفي دولار تقريبًا.
نماذج من الواقع
- أعلنت "إنتل" في أوائل عام 2022، خططًا لبناء مصنعين ضخمين في أوهايو باستثمار قيمته 20 مليار دولار مع إمكانية رفعه إلى 100 مليار دولار على مدى عقد، ومع ذلك، واجهت الشركة رياحًا معاكسة بسبب الضغوط التي واجهتها سوق أشباه الموصلات.
- اضطرت الشركة إلى تأجيل بدء الإنتاج إلى 2030 بدلًا من 2025، في إشارة إلى أن ظروف السوق تؤثر على جهود إعادة التصنيع إلى الوطن، فالدعم الحكومي يُساعد، ولكن إذا انخفض الطلب على الرقائق أو كانت موارد الشركات المالية محدودة، فإن الجداول الزمنية قد تتأخر.
- في مايو 2020، أعلنت شركة "تي إس إم سي" التايوانية، أنها ستبني مصنعاً لأشباه الموصلات بقيمة 12 مليار دولار في أريزونا، والذي سيكون قادراً على إنتاج رقائق بتقنية "5 نانومتر"، وذلك بعد مفاوضات مع إدارة "ترامب".
- اكتسب المشروع زخماً أكبر في ظل إدارة "بايدن"، التي أقرّت قانون الرقائق، وبحلول أواخر عام 2022، وسّعت الشركة خطتها لتشمل مصنعًا ثانيًا لرقائق "3 نانومتر"، ووصل إجمالي الاستثمار إلى 40 مليار دولار، مع توقعات بإضافته 4500 وظيفة مباشرة، إلى جانب عشرات الآلاف من وظائف البناء والتوريد.
- في صيف 2023، أجلت الشركة بدء الإنتاج من عام 2024 إلى عام 2025 بسبب نقص العمالة الماهرة وعقبات أخرى في البناء، واستقدمت فنيين ذوي خبرة من تايوان (ألف عامل) للمساعدة في تدريب القوى العاملة الأمريكية وإتمام بعض الإنشاءات.
- أشارت التقديرات الأولية إلى أن تكلفة إنتاج مشروع أريزونا قد تكون أعلى بنسبة 50%، لكن الشركة تشير الآن إلى أن الفجوة ستصبح أقل من 20% مع احتساب الدعم الحكومي.
- ختامًا، فإنه رغم الاستثمارات الضخمة وخطط إعادة التوطين التي رُوّج لها، لا تزال القاعدة الصناعية الأمريكية تعاني من فجوات عميقة، وفيما يتجدد طموح "ترامب" في "إعادة وظائف التصنيع إلى الوطن"، يبدو أن الحلم لا يزال يصطدم بواقع آليم، فالتصنيع، كما يبدو، لا يعود بالتغريدات أو التعريفات.
المصادر: أرقام- سي إن بي سي- مركز بيو للأبحاث- بزنس إنسايدر- مبادرة إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة- تشاينا باور- معهد بيترسون للاقتصاد الدولي- ستاتيستا- إنفستينج- تي إس إم سي- اللجنة الاقتصادية المشتركة للكونجرس الأمريكي- أمريكان سينشري إنفستمنتس- موردرن ديستربيوشن مانجمنت- مكتب الإحصاءات الاقتصادية الأمريكي- مكتب الصناعة والأمن الأمريكي- تك إنسايتس- تك باور آب- مانيفاكتورينج دايف- شات جي بي تي- كلود- ليوناردو- ريكرافت
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة ارقام ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من ارقام ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.