مارلين سلوم
«الله على زمان وأفلام زمان»، هذا ما نردده باستمرار ونعيش في قلب النوستالجيا رافضين الخروج منها كلما تحدثنا عن السينما، نحن لأيام أفلام الأبيض والأسود بما فيها من هدوء ورومانسية تنعكس بشكل تلقائي على كل من يشاهدها فيشعر وكأنه عاش معها ولو لوقت بسيط في حلم، وكأنها دعته لإلى الاسترخاء وأخذ قسط من الراحة من ضوضاء الحياة والأيام وسرعة إيقاعها ولهاثنا اليومي خلفها.. هذه الدعوة تأتيك اليوم من خلال فيلم جديد لا قديم، بالألوان لا بالأبيض والأسود، أبطاله شباب، لكن كل ما فيه هادئ وساحر ويحملك بشكل مباشر إلى استراحة رومانسية فلسفية غير معقدة، تتمنى العودة إليها في نفس لحظة ظهور تتر النهاية؛ فيلم «6 أيام» السينما كما نحلم ونتمنى.
يمكن القول إن «6 أيام» أول فيلم طويل للمخرج كريم شعبان فاق توقعاته وتوقعات الجمهور، هل يعود الفضل في ذلك إلى رؤيته الإخراجية وحسن اختياره للأبطال؟ أم لكتابة مؤلفه وائل حمدي التي وازنت بحرفية بين البساطة والعمق، بين واقع الحياة والمضمون الفلسفي لما يعيشه الإنسان وتقلبات الظروف والأهواء والأيام؟ أم لبراعة وحرفية وسلاسة النجمين أحمد مالك وآية سماحة في تجسيدهما دوري البطلين يوسف وعالية؟ هو كل هذه الأشياء، مزيج وإتقان جعل الفيلم كامل الأوصاف تقريباً، بسيط يصل إلى كل القلوب ويتربع فيها، وببساطته أيضاً يسهّل على الجمهور بكل فئاته وطبقاته وأعماره فهمه واستيعابه والتفاعل معه، وبإيقاعه الهادئ يجعل الصالة المكتظة بالجمهور صامتة وكأنها خالية تماماً من الناس.. وكل هذه الأشياء تجعل من «6 أيام» حالة سينمائية تتمنى أن تتكرر وتزيدك إحساساً وقناعة بأن الجمهور كله من مختلف الأعمار يحتاج بشدة إلى هذه النوعية من الأعمال التي تحترم العقل وتحرّك المشاعر وتعكس جمال الفن والتمثيل وصناعة الفن السابع بعيداً عن المنافسات المبالغ فيها في صناعة أفلام خارقة لأبطال وعوالم خارقة ولصراعات فضائية ومؤامرات عالمية.
إطار حياتي واقعي
بلا ضرب وقتل وفرد عضلات، وبلا كوميديا وضحك وتهريج، يبدأ فيلم «6 أيام» أحداثه وينهيها في نفس الإطار الحياتي الواقعي المتأرجح المتقلّب كما هي الحياة بين اللقاء والفراق، الفرح والحزن، النجاح والفشل، الحلم والخيبة، البوح والصمت.. وببطلين اثنين يكونان محور الأحداث طوال الوقت، ولا يظهر بجانبهما سوى بعض الشخصيات التي تطل وتختفي لاستكمال المشهد ليس أكثر، ومن براعة المخرج شعبان أنه يشعرك بوجود الأسرة والأصدقاء أو الزملاء والناس في الشوارع من دون أن يكونوا وسط المشهد أو أن يسرقوا الكاميرا، وفي نفس الوقت تكتشف أنه يوحي لك بوجودهم في كثير من الأحيان بينما فعلياً لا وجود لهم في قلب إطار الكاميرا، حتى خطيب عالية وهو ابن خالها، ثم زوجها زياد لا يظهران على الشاشة أبداً.
تطور الأحداث
يبدأ الفيلم في عام 2006، حيث يقضي المراهقان يوسف وعالية آخر يوم دراسي قبل بدء الامتحانات بين مشاهدة فيلم في السينما والمشي في الشوارع، محاولين إيجاد حل لمشكلة انتقال عالية مع أسرتها بعد انتهاء الامتحانات إلى 6 أكتوبر، كيف سيتقابل يوسف وعالية وأين؟ تعود عالية إلى المنزل لتكتشف أن والدتها قررت الانفصال عن والدها والرحيل فوراً مع ابنتيها برفقة شقيق الأم؛ صدمة قلبت كل الأمور فتغيرت معها حياة يوسف وعالية.
نصل إلى عام 2013، يوسف (أحمد مالك) يأتي للمشاركة في مؤتمر لأطباء الأسنان، فيلتقي صدفة بعالية (آية سماحة)، نادلة تعمل في المقهى، ينتظر انتهاء عملها ليكملان يومهما معاً يتحدثان عن أحوالهما وما الذي حصل، وكيف بقي يوسف يبحث عن الفتاة غير فاهم لسبب اختفائها المفاجئ. اللقاء يسوده الخجل والحذر، لكنه مفعم بنفس روح المودة والتفاهم ولغة العيون.. يوسف شارف على التخرج كطبيب أسنان، وعالية استكملت دراستها الجامعية، لكنها لم تجد عملاً سوى في المقهى؛ لكن بدل أن يفترقا على أمل اللقاء قريباً، تطلب عالية من يوسف أن يلتقيا كل عام في نفس التاريخ 19 ديسمبر، يوافق الشاب من دون أن يفهم السبب..
يقف الفيلم على حافة السقوط في فخ الملل بسبب تكرار اللقاءات السنوية مرة كل عام أو عامين، واللقاءات عبارة عن حوارات ثنائية بين يوسف وعالية، لكن المخرج والكاتب نجحا في القفز فوق الخطر وجعل الجمهور متعلقاً بالشخصيتين ومنتظراً التطورات بشغف، كما أن تقلبات أحوال البطلين مع مرور الزمن جعلت المضمون يبتعد عن التكرار ويزيد من جرعة التشويق، عالية التي كانت نادلة في مطعم أصبحت مضيفة طيران أنيقة، بينما يوسف ترك مهنة الطب عمداً ليعمل في مهن مختلفة ويصبح شكله كالبوهيميين والمشردين، يوسف يرفض أن يكون طبيباً، لأنه يرى أنه عاش عمره يحقق أحلام غيره قائلاً «مش عارف لو أبويا يحبني أم أنه يحب نفسه جوّايا». يفترق الثنائي وداخل كل منهما خيبة ما، ومع كل لقاء نشعر بأن يوسف وعالية يحملان مشاعر كبيرة لبعضهما البعض، لكن المسافة في كل مرة تكبر أكثر وتبعدهما عن بعضهما أكثر.. خطوبة عالية من ابن خالها لم تُثر غيرة يوسف ولم تحثه على البوح بأي من مشاعره.. حتى فسخ الخطوبة لم يقرّب المسافة بينهما.. قبل كل لقاء يسجل المخرج عبارة تظهر على الشاشة مع تاريخ اللقاء الجديد، عبارة مرة تكون باسم الفتاة ومرة باسم الشاب، مثل «كل واحد يرى الدنيا بعينيه وحين نراها بعيني بعض نتفاجأ (بمعنى ننصدم)»؛ جُمل تعكس ما في النفوس لكنها تحمل معاني عميقة، حديث تشعر بأنه من الروح إلى الروح.
زواج عالية
الصدمة الكبرى حين يأتي اللقاء الذي يكتشف فيه يوسف أن عالية تزوجت من رجل أعمال ثري جداً، لكنها تعيش حياة حزينة، امرأة معنّفة، يضربها زوجها ثم يعتذر ويعوّضها بهدية ثمينة جداً، حقيقة مرّة تصدم يوسف وتدفعه لحث عالية إلى رفض هذا الواقع من دون أن يتغير الوضع أو الوقوف بجانبها فعلياً. تقلبات أحوال البطلين تعكس تقلبات الحياة عموماً، مراحل نمر بها جميعاً لذلك يجد الجمهور نفسه ومشاكله وسنين عمره على الشاشة، تفاصيل كثيرة دقيقة حرص عليها المخرج أدت دوراً كبيراً في التئام كل الحكاية مع الحقيقة واستكمال كل مشهد كما لو كان جزءاً من الواقع، ليس حشواً ولا عبثاً اختيار الأغاني المرافقة لكل موقف ومشهد، بداية من فليم «دنيا» لمحمد منير وغنائه فيه والذي شهد على آخر لقاء بين المراهقين يوسف وعالية قبل انفصالهما، إلى مسجل «الريكوردر» المعلّق في الشارع عند بائع السندويتشات، إلى كوبليه «كان لك معايا» من أغنية «أنساك» لأم كلثوم، و«عملت ايه فينا السنين» لوردة وغيرها من أغاني وجمل رافقت الفيلم لتحمل رسائل مباشرة تتماشى مع مضمون القصة والموقف، ومشاعر البطلين التي لا يبوحان بها.
الديكور والملابس وحتى قصة الشعر والماكياج.. من التفاصيل التي توافقت مع طبيعة العمل والمراحل العمرية ووفق أحوال البطلين والسنوات والموضة.. لن نتطرق إلى ما ستؤول إليه قصة يوسف وعالية، لأنها تستحق المشاهدة على الشاشة من بدايتها وحتى نهايتها، إنما يمكن القول إن الستة أيام التي التقى فيها هذا الثنائي خلال 18 عاماً، تختصر قصة حياة؛ أما أحمد مالك وآية سماحة فتُرفع لهما القبعة على هذا الرقي والاحتراف في الأداء الهادئ والصادق والانسجام الكبير بينهما، مع تنويه بأداء الشاب مالك عماد الذي جسد دور يوسف في سن المراهقة محاولاً تقليد أحمد مالك في حركة الجسد.
فيلم آخر
اختار صناع الفيلم أن يكون اللقاء الأخير للبطلين في صالة السينما، وأن يشاهدا فيلم «الهوى سلطان» الذي عُرض نوفمبر 2024، أي أنه من غير المألوف أن يعرض الفيلم الجديد لقطات من فيلم جديد آخر، ينتمي لنفس نوعيته الرومانسية؛ بل وكلاهما يحكي قصة رفيقي درب منذ الطفولة أو المراهقة وتقلباتهما.. علماً أن التشابه بين القصتين في بعض النقاط كبير، مع تمكن «6 أيام» من الارتقاء فوق مستوى «الهوى سلطان» ليكون حالة خاصة في السينما اليوم.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.