أضيفٌ أنتَ حلَّ على الأنامِ
وأقسمَ أن يحيا بالصِّيامِ
قطعتَ الدَّهرَ جوابًا وفيًا
يعودُ مزارَه في كلِّ عامِ
تخيِّمُ لا يحدُّ حماكَ ركنٌ
فكلُّ الأرضِ مهدٌ للخيامِ
نسختَ شعائرَ الضيفانِ لمّا
قنعتِ من الضيافةِ بالمقامِ
ورحتَ تسدُّ للأجوادِ شرعًا
من الإحسانِ عُلويَّ النّظامِ
بأنّ الجود حرمان وزهد
أعزُّ من الشرابِ أو الطّعامِ
وفي مقابل هذا الفيض المنثال من ميزاب اليقين والرضا، فإنك لا غرو منقبض النّفس من شعراء وكتّاب استهدفوا شهر الخير بالهجاء، وصرّحوا بذلك علنًا، وبرز منهم في ذلك الشاعران، الحسن بن هاني (أبونوّاس)، وزميله ابن الرومي، فكلاهما هجا رمضان، وأفحش في هجائه، فإن صدقا التعبير فقد عبرا عمن اتبعت شهواتها، وانحطت همتها، وبقي ما سطّراه خالدًا في كراسة الأدب، ولم يفلح استدبراهما «إثم» الهجاء لاحقًا، بمدح أظهراه في آخرة، خوف العقاب، ولم يمحُ عنهما كذلك صدق النفس في الهجاء.. فما أعجب الموقفين.. فإبن الرومي الذي يقول في مقام:
إذا بَرَّكت في صوم لقومٍ
دعوت لهم بتطويل العذابِ
وما التبريك في شهر طويل
يُطاول يومه يوم الحساب
هو هو من يقول في مقام آخر:
وطالعْ هلال الصوم في وجه نعمةٍ
مجددةٍ زهراءَ بل نعمِ عشر
وعلى ذات المنول كان صاحبه «أبونوّاس» نديمه في ذم رمضان، حين يقول:
ألا يا شهر كم تبقى؟ مرضنا ومللناك
إذا ما ذُكر الحمدُ لشوَّالٍ ذممناك
فيا ليتك قد بِنتَ وما نطمع في ذاك
ولو أمكن أن يُقتل شهرٌ لقتلناك
فإنك لو استمطرت اللعنات عليه في هذا المقام، فسيحرجك حين يقف موقف التوبة والرجاء، وهو يقول:
اعمَل وَبادِر أَجَلَك
وَاِختُم بِخَيرٍ عَمَلَك
لَبَّيكَ إِنَّ الحَمدَ لَك
وَالمُلكَ لا شَريكَ لَك
فإن صدقت منه «التوبة» فقد أفضى إلى رب كريم، ورضوان عميم..
على أن ذم الشهر الفضيل لم يقف عند ابن الرومي وأبي نوّاس، فصاحبهما بشار بن برد ذهب مذهبهما، بقوله:
قُل لشهرِ الصيامِ أنحلتَ جسمي
إنّ ميقاتنا طلوع الهلالِ
أجهد الآنَ كلّ جهدك فينا
سنرى ما يكون في شوالِ
فانظر بماذا «يتوعّد» خير الشهور؟ ولن يخذلك إلا خيالك في ما أعد «ابن برد» لشوال وما بعد شوال من الانغماس في المهلكات، والإسراف في ما حلّل وحرّم.. !
على أن عناية الشعراء والأدباء بشهر الخير ذهبت ببعضهم إلى تصوير لحظاته كلها، من وقت السحور إلى ساعة الإفطار، وإن كانت لحظات الإفطار قد حظيت بنصيب من الاهتمام أكبر، لما تتجلى فيها من لحظة ترقب الأذان، ووصول الأنفس إلى ذروة التعب، وانتظار الفرج والفرح، بنصّ حديث «للصائم فرحتان»، فها هو الشاعر محمود حسن إسماعيل يعود مصوّرًا مشهد ترقب الصائمين لنداء المؤذن، قائلاً:
جعلتَ النّاسَ في وقتِ المغيبِ
عبيدَ ندائِكَ العاتِي الرَّهيبِ
كما ارتقبوا الأذانَ كأنَّ جُرحًا
يُعذّبُهم.. تلفَّتُ للطبيبِ
وأتلعتَ الرّقابَ بهم فَلاحُوا
كركبانٍ على بلدٍ غريبِ
عتاةُ الأنسِ أنت نسختَ منهم
تذللَّ أوجهٍ وضنًى جنوبِ
أما عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، فقد ترقب بقلمه السيّال ما يكون بعد أذان المغرب عند طائفة من الناس، فصوّرهم أبرع تصوير بقوله: «.. فإذا دنا الغروب وخفقت القلوب وأصغت الآذان لاستماع الأذان وطاشت نكهة الطعام بالعقول والأحلام، فترى أشداقا تنقلب وأحداقا تتقلب بين أطباق مصفوفة وأكواب مرصوفة تملك على الرجل قلبه وتسحر لبه بما ملئت من فاكهة وأترعت من شراب الآن يشق السمع دوي المدفع فتنظر إلى الظماء وقد وردوا الماء، وإلى الجياع طافوا بالقصاع، تجد أفواها تلتقم وحلوقا تلتهم وألوانا تبيد وبطونا تستزيد ولا تزال الصحائف ترفع وتوضع والأيدي تذهب وتعود وتدعو الأجواف قدني.. قدني وتصيح البطون قطني.. قطني ومع تعدد أصناف الطعام على مائدة الفطور في رمضان فإن الفول المدمس هو الصنف الأهم والأكثر ابتعاثا للشهية..»..
إنها الحالة التي ذمها الشاعر العراقي معروف الرصافي بنظمه البديع قائلاً:
وأغبى العالَمينَ فتًى أكول
لفطنتِه ببطنتِه انهزامُ
ولو أنّي استطعتُ صيامَ دهري
لصمتُ فكان ديدنيَ الصيامُ
ولكن لا أصومُ صيامَ قومٍ
تكاثرَ في فطورِهُمُ الطّعامُ
فإن وَضَحَ النَّهارُ طووا جياعًا
وقد همُّوا إذا اختلط الظّلامُ
وقالوا يا نهارُ لئنْ تُجِعنا
فإنّ الليلَ منك لنا انتقامُ
وناموا متخمينَ على امتلاءٍ
وقد يتجشّؤون وهم نيامُ
فقلْ للصّائمين أداءَ فرضٍ
ألا ما هكذا فرضُ الصّيامِ
أسأل الله لكم صيامًا مقبولاً، وقيامًا مأجورًا، وعملاً ثقيلاً في ميزان الحقّ يوم الجزاء الأوفى، وكلّ عام وأنتم بخير.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.