في عالمِ الفنون حيث تتشابكُ الصورُ مع الكلمات، وتتشكَّلُ الأفكارُ في فضاءاتٍ سمعيَّةٍ، تبرزُ الموسيقى التصويريَّة بوصفها عنصراً جوهرياً، لا يمكن تجاهله. هذه الموسيقى ليست مجرَّد خلفيَّةٍ صوتيَّةٍ فقط، إنها أيضاً الشاهدُ الصامتُ الذي يعبِّر عن المشاعرِ الخفيَّة في كلِّ مشهدٍ، ومن خلال نغماتها المتناسقةِ، وألحانها العميقةِ، تنقلُ حالاتِ الانفعال، فتؤدي دورَ الراوي الذي يعكسُ رؤيةَ المخرج، وفلسفةَ العملِ الفنِّي، كما تأخذنا في رحلةٍ إلى أعماقِ الشخصيَّات وتجاربها الوجوديَّة.
إعداد : علي عبدالرحمن
دورُ الموسيقى التصويريَّة في السينما، تجاوز الأبعادَ التقليديَّة، لتصبح علامةً فنيَّةً مستقلَّةً، تتخطى أحياناً نجاحَ العمل ذاته، إذ تثيرُ في المشاهدين ذكرياتٍ معيَّنةً، وتلامسُ مشاعرهم بطرقٍ تفوقُ التأثيرَ البصري، فيتذكَّرون أحداثه، ليس فقط من خلال الصور، بل وعبر الألحانِ المرافقةِ أيضاً، ما يجعلُ الفيلمَ تجربةً خالدةً، تترسَّخ في الذاكرةِ الجمعيَّة.
إن الموسيقى التصويريَّة، لم تكتب تاريخاً فنياً فحسب، بل وشكَّلت كذلك حواراً فلسفياً بين الصوتِ والصورة. إنها بحقٍّ نافذةٌ على الروح، تُظهِرُ كيف يمكن للصوتِ أن يخلق واقعاً جديداً، ويعبِّر عن أعمقِ آمالنا وآلامنا.
يمكنك متابعة الموضوع على نسخة سيدتي الديجيتال من خلال هذا الرابط
تطور الموسيقى التصويرية في السينما
منذ أن قدَّم الأخوان لوميير Lumière Brothers للعالمِ مفهومَ صناعةِ السينما في عشرينياتِ القرنِ الماضي، بما يملأ الفراغَ الذي تركه غيابُ الحوارِ في الأفلامِ الصامتة، والموسيقى تبرزُ بوصفها عنصراً تكميلياً، أشبه بالديكور، لكنها لم تكن بعد قد اكتسبت المكانةَ الجوهريَّة التي نشهدها اليوم، وكان دورُها محدوداً وخافتاً.
ومع نضوجِ هذه الصناعةِ الوليدة، ظهر مفهومُ المؤلِّف الموسيقي ليُغيِّر المشهدَ عام 1929، وقد شكَّل ذلك نقطةَ تحوُّلٍ مهمَّةً في تلك الحقبة، وأصبح هناك اعترافٌ تدريجي بأن الموسيقى ليست مجرَّد خلفيَّةٍ تكميليَّةٍ للعمل، بل يمكن أن تكون عنصراً بارزاً، يجذبُ الجمهورَ بشكلٍ مباشرٍ. في هذه المرحلةِ، كانت فرقٌ موسيقيَّةٌ صغيرةٌ، تعزفُ مباشرةً في خلفيَّة صالاتِ العرضِ أثناء تقديم الفيلم، فمثَّل هذا الجهدُ المبكِّر لدمج الموسيقى مع الصورة السينمائيَّة بدايةَ التفكيرِ في الموسيقى بوصفها جزءاً لا يتجزَّأ من السردِ البصري.
ماكس شتاينر: الأب المؤسّس
وفي حقبتَي الثلاثينيَّاتِ والأربعينيَّات، شهدت الموسيقى التصويريَّة تحوُّلاً جوهرياً بفضلِ روَّادٍ أمثال الأمريكي ماكس شتاينرMax Steiner، الذي يُعدُّ بحقٍّ الأبَ المؤسَّس لهذا الفنِّ، إذ وضع أسساً راسخةً لمفهومِ الموسيقى التصويريَّة، مؤكداً بها أن الموسيقى ليست مجرَّد عنصرٍ ترفيهي، وإنما وسيلةٌ فاعلةٌ لإيصالِ المشاعر، وتعميقِ التجربةِ السينمائيَّة عبر إبداعاته، كما أثبت أن الموسيقى قادرةٌ على نقلِ الجمهورِ من حالةٍ إلى أخرى، وتوجيه الانتباه إلى أعماقِ الرسالةِ الفنيَّة للعمل. وقد استمرَّ تطوُّر الموسيقى التصويريَّة لتبرز بوصفها عاملاً مؤثِّراً في نجاحِ الأفلام.
ومنذ ذلك الحين، لم تعد الموسيقى مجرَّد خلفيَّةٍ، تدعمُ الأجواء فقط، إذ صارت جزءاً مركزياً من البناءِ الفنِّي للفيلم، ومحرِّكاً للسرد، وتسبق الأحداثَ أحياناً، أو تخلقُ التوتُّر العاطفي بين المُشاهد والشخصيَّات. هذه الأهميَّةُ الجديدةُ التي اكتسبتها الموسيقى التصويريَّة، دفعت المهرجاناتِ السينمائيَّة إلى تكريمِ مبدعيها بتخصيصِ جوائزَ مرموقةٍ لها، يُحتفى من خلالها بالإسهاماتِ الفنيَّة التي تُضفيها على العملِ السينمائي، ما يؤكِّد أن الموسيقى باتت لغةً متكاملةً بحدِّ ذاتها داخلَ عالمِ السينما، وتؤثِّر في إدراكِ المُشاهد للحظةِ الفنيَّة، والمشاعرِ المتداخلة فيها.
عنصر سردي عميق
وتتجاوزُ الموسيقى كونها «زخرفةً» فقط، فهي عنصرٌ سردي عميقٌ، وبمنزلةِ البنيةِ غير المرئيَّة التي تُشكِّل التجربةَ السينمائيَّة في الأفلام، فاللحظةُ التي يُعزَفُ فيها لحنٌ معيَّنٌ، لا تكون تعبيراً عن الشعورِ فحسب، بل وتُجسِّد أيضاً إيقاعَ الحياة، وتُلخِّص الصراعاتِ الداخليَّة والخارجيَّة للشخصيَّات.
وتُعدُّ الموسيقى كذلك أداةً لتحديدِ إيقاعِ الفيلم، إذ تمنح النصَّ السينمائي طاقةً وديناميكيَّةً، قد لا يتمكَّن الحوارُ من إيصالهما بشكلٍ كاملٍ.
أداة للتعبير عن هوية الفيلم
واستطاعت الموسيقى التصويريَّة، بما لها من قدرةٍ فريدةٍ على التعبيرِ عن هويَّة كلِّ مشهدٍ، أن تلعب دوراً جوهرياً في تشكيلِ هويَّة تلك الأفلام، فالملحنُ إنيو موريكوني Ennio Morricone، على سبيلِ المثال، دمجَ بين الأصواتِ الطبيعيَّة، والتأثيراتِ الصوتيَّة، والموسيقى، ليُنتِجَ تجاربَ سمعيَّةً، تتشابك فيها الحدودُ بين الواقعِ والخيال. وتلك الموسيقى، لم تكن فقط لإثارةِ المشاعر، بل وشكَّلت أيضاً سرداً موازياً للصورةِ السينمائيَّة، ما يعكس البنيةَ الفكريَّة المعقَّدة التي يتناولها الفيلم.
الموسيقى التصويرية في السينما العربية
تتميَّز السينما العربيَّة بتوظيفِ الموسيقى أداةً محوريَّةً في صياغةِ السرد الدرامي، وفي هذا الجانبِ، يُعدُّ الملحن علي إسماعيل من أبرزِ الأسماءِ التي أسهمت في تشكيلِ هويَّة الموسيقى التصويريَّة خلال الخمسينيَّاتِ والستينيَّات، وفيلمُ غرام فى الكرنك (1967) مثالٌ بارزٌ على ذلك، إذ كانت الموسيقى جزءاً لا يتجزَّأ من بنيةِ السرد، وتُوحِّد بين تطوُّرات الحبكة، وصراعاتِ الشخصيَّات. أمَّا في السينما اللبنانيَّة فقد ركَّزت الموسيقى على إبرازِ الهويَّة الثقافيَّة حيث وظَّف المخرجون الموسيقى التقليديَّة أداةً للتعبيرِ عن القضايا الاجتماعيَّة والسياسيَّة.
ما رأيك بالاطلاع على السمسمية تنضم إلى قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي.. إليكم التفاصيل
تعزيز الدراما والمشاعر
- بوستر فيلم The Godfather (مصدر الصورة من IMDB).
- بوستر فيلم Psycho (مصدر الصورة من IMDB).
- بهيجة حافظ - صورة أرشيفية.
- بوستر فيلم StarWars (مصدر الصورة من IMDB).
تُعدُّ الموسيقى عنصراً أساسياً في خلقِ حالةٍ من التوتُّرِ، أو الفرحِ، أو الحزن في الأعمالِ السينمائيَّة. مثلاً في أفلامِ الرعب، تصبح الموسيقى بمنزلةِ إشارةٍ غير مرئيَّةٍ للخوفِ الذي يقترب، أمَّا في فيلم Psycho لألفريد هيتشكوك، فلم تكن تلك الموسيقى، التي ألَّفها Bernard Herrmann، مجرَّد خلفيَّةٍ فقط، وإنما شكَّلت جسداً خفياً للرعبِ الذي يخيِّمُ على المشهد، إذ كانت النغماتُ السريعةُ والحادة، تعمل بوصفها صوتاً داخلياً، يعكسُ الرعبَ النفسي الذي يُعانيه المشاهدون. في حين، نجدُ في الدراما الرومانسية، أن الموسيقى تضيفُ لمساتٍ لطبقاتِ التوتُّر العاطفي، ما يقرِّبُ المُشاهد من عمقِ الشخصيَّات وحالاتها النفسيَّة، من ذلك الموسيقى التصويريَّة لفيلمِ Titanic، إذ كانت رمزاً لتلك الحبكةِ التراجيديَّة التي جمعت بين الحبِّ والمأساة.
الموسيقى في السينما العربية الحديثة
بدأت الموسيقى التصويريَّة تأخذُ أبعاداً جديدةً في السينما المصريَّة بعد فيلمِ «الجزيرة» عامَ 2007 فقد كانت موسيقى الموسيقار عمر خيرت في حدِّ ذاتها جزءاً من الصراع، إذ تناسبت مع المشاهدِ الحماسيَّة، والمعاركِ المحتدمة. أمَّا في السينما الخليجيَّة، فنجدُ أن الموسيقى، بدأت تلعبُ دوراً أكبر في السرد، وصارت تُستَخدمُ لإبرازِ الهويَّة الثقافيَّة للمنطقة، ما يعكسُ الصراعَ الاجتماعي الحديثَ بأسلوبٍ سينمائي متداخلٍ، يجمعُ بين الموسيقى والصورة، ويعمِّقُ التجربةَ النفسيَّة للمشاهدين، ويضيفُ بُعداً فلسفياً، يُظهِرُ التعقيداتِ الاجتماعيَّة والثقافيَّة.
التكنولوجيا والموسيقى
مع تطوُّر التكنولوجيا، استخدم الفيلمُ الخيالي Interstellar تقنياتٍ صوتيَّةً مبتكرةً لجعل الموسيقى تتداخلُ مع البنيةِ السرديَّة للفيلم، واستعان الملحِّن Hans Zimmer هانز زيمر بآلاتٍ، وبرمجةٍ موسيقيَّةٍ حديثةٍ لخلقِ تجاربَ صوتيَّةٍ، تجعل الموسيقى جزءاً أصيلاً من البناءِ الفلسفي للفيلم.
وفي السينما العربيَّة، نلاحظُ أن الاهتمامَ بالجانبِ التكنولوجي في الموسيقى، بدأ يظهر بشكلٍ متزايدٍ في فيلمِ «الممر» عامَ 2019، الذي ألَّف الموسيقى الخاصَّةَ به كذلك الموسيقار عمر خيرت، لتظلَّ الموسيقى التصويريَّة، تشكِّلُ العمودَ الفقري للسردِ السينمائي حيث تعكسُ تجاربنا الإنسانيَّة في كلِّ مشهدٍ، كما أن قدرتها على دمجِ الصورةِ بالصوت، وخلقِ تجاربَ شعوريَّةٍ فريدةٍ، يجعلان منها أداةً أساسيَّةً للتعبيرِ عن الهويَّةِ، والأحاسيسِ، والصراعاتِ الداخليَّة.
إننا نشهدُ حالياً تطوُّراً مستمراً في هذا المجال، ما يشيرُ إلى أن المستقبل، يحملُ مزيداً من الابتكاراتِ والمفاجآتِ في عالمِ الموسيقى السينمائيَّة.
صنّاع الموسيقى التصويرية العالميون
ماكس شتاينر Max Steiner
يعدُّ رائداً في تأسيسِ الموسيقى التصويريَّة السينمائيَّة خلال ثلاثينياتِ القرنِ العشرين، وقد حقَّق شهرةً واسعةً بتأليفه موسيقى فيلم King Kong عامَ 1933، ونال جائزةَ الأوسكار عن Gone with the Wind في 1939، ما جعل موسيقاه عنصراً أساسياً في هويَّة الأفلام. وقام شتاينر بتأليف أكثر من 300 معزوفةٍ موسيقيَّةٍ، ليكون له دورٌ بارزٌ في تأسيسِ قواعدِ الموسيقى السينمائيَّة الحديثة.
جون ويليامز John Williams
أحدُ أبرزِ صنَّاع الموسيقى التصويريَّة حيث تمتدُّ مسيرته الفنيَّة لأكثر من ستَّة عقودٍ. حصل على 25 جائزةَ جرامي، وخمسِ جوائز أوسكار، وتعدُّ موسيقاه في أفلامٍ مثل Star Wars، وIndiana Jones تجاربَ سمعيَّةً فريدةً، تعزِّزُ السردَ السينمائي.
إينيو موريكوني Ennio Morricone
أحدثَ ثورةً في الموسيقى التصويريَّة بأسلوبه المتنوِّع، وقدَّم خلال مسيرته أكثر من 500 مقطوعةٍ، وحصل على جائزةِ الأوسكار لموسيقاه في فيلم The Hateful Eight عامَ 2016. تعرفُ موسيقاه بقدرتها على خلقِ أجواءٍ، تأخذ المشاهدين في رحلةٍ داخل الفيلم.
هانز زيمر Hans Zimmer
من أهمِّ الأسماء الحاليَّة في الموسيقى التصويريَّة. يشتهرُ بتقديمِ موسيقى ذات عمقٍ درامي، تعزِّزُ تأثيرَ الأحداثِ السينمائيَّة، ومن أشهرِ أعماله The Lion King، وInception حيث يدمجُ بين الإيقاعاتِ الحديثة، والمقاطعِ السيمفونيَّة.
صنّاع الموسيقى التصويرية العرب
بهيجة حافظ
أوَّلُ مَن أدخلت الموسيقى التصويريَّة إلى السينما المصريَّة حيث وضعت ألحاناً، تعبِّر عن مشاعرِ الشخصيَّات في فيلمِ «زينب» عامَ 1930، وأبدعت أيضاً في «ليلى بنت الصحراء».
عمر خيرت
من أكثر الموسيقيين المصريين تأثيراً، إذ يمزجُ بين الأصالةِ العربيَّة، والإيقاعاتِ الغربيَّة. وتعدُّ موسيقى فيلمِ «ليلة القبض على فاطمة» جزءاً لا يتجزَّأ من الذاكرةِ السينمائيَّة العربيَّة.
عمار الشريعي
قدَّم عمار الشريعي ألحاناً مميَّزةً، تحملُ طابعاً أصيلاً مثل موسيقى فيلم «البريء» التي تعبِّر عن الألمِ، والحزنِ بعمقٍ فلسفي.
هاني شنودة
من أوائلِ الموسيقيين الذين أدخلوا المفاهيمَ الحديثةَ للموسيقى التصويريَّة، وقدَّم موسيقى، تتناغمُ مع المشاهدِ الدراميَّة مثل فيلم «المشبوه» الذي قدَّم فيه موسيقى، تواكبُ المشاهدَ الدراميَّة بعبقريَّةٍ فريدةٍ.
هاني شنودة رافق فيلم "المشبوه" بموسيقى تصويرية تواكب المشهد الدرامي بعبقرية
يمكنك أيضًا الاطلاع على البوب بنوتات عربية.. ولادة هويَّة موسيقيَّة جديدة
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة سيدتى ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من سيدتى ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.