لم تكشف الحرب في أوكرانيا قبح وقوع أي دولة بين فكي مفترسين فقط، ولكنها كشفت كذلك عن زيف منظومة القيم الأوروبية التي تسوقها للعالم ليل نهار.
أفصحت هذه الحرب عن عنصرية غربية ظلت عميقة لا يمكن للغرب التخلص منها. لقد كنا نعتقد أن مقتل جورج فلوي مجرد حادث عرضي، ليس له مكان في الدول الديمقراطية. أتضح ان الديموقراطية قد تكون نظام محلي صرف لا يمكن تعميمه دون اعتبار لطبيعة المجتمعات وتقاليدها وقيمها الدينية والاجتماعية والثقافية، ودون اعتبار لتمايز المجتمعات فيما بينها.
أسواء العورات التي هتكتها حرب أوكرانيا هي ان الانسان لدى النظام الغربي هو درجات من التفاوت ولا يمكن وضعه في مستوى واحد. ولعل الكثير يذكرون تلك التصريحات التي حاولت تقديم الانسان في الشرق الاوسط (أفغانستان، العراق، فلسطين) بأنه موضوع دائم للحرب ويستحق الحرب، ويستحق الموت لأنه هو من يهرول نحو الحرب، بينما الانسان في أوكرانيا هو انسان آخر، هو شبيه للإنسان الغربي الأبيض "الناصع" الحضاري جدًا المحب للسلام والحضارة والثقافة. لقد تجلت منظومة القيم الغربية الإنسانية في سجن أبو غريب حيث تعلمن درسا عن طبيعة القيم التي حملها الجيش الأمريكي إلى العراق، ومن حصار كوبا منذ 60 عاما يعتبر دليل رائع لمدى احترام الولايات المتحدة لسيادة الدول وحرية اختيار مسار تطورها.
لم تذهب الغرب لاحتلال أفغانستان عام 2001، بل لتحرير الشعب الأفغاني من أرضه. أما الهروب بعد عشرين عاما وترك سلاح فتاك يقدر بـ 80 دولار فليس صدفة بل كي يقع عنوة في أيدي جماعات إنسانية شبيهة بالغرب وتديرها أمريكا لتقديم يد العون لكل من الصين وروسيا، فقط نحن وأنتم لا نفهم حسن النوايا.
تحت الثقافة نضع عشرين خصًا أحمرًا. رأينا كيف أن حُمى العداء لروسيا دفعت بالغرب المتحضر لإعلان الحرب ضد الثقافة الروسية. ليست الثقافة الروسية المعاصرة، بل الثقافة الكلاسيكية. صاحب رواية الحرب والسلام الذي كشف فضائع حرب الفرنسي نابليون ضد روسيا وهزيمته أمام الطقس الروسي على أبواب موسكو ورفض القيصر الاستسلام له. عاد نابليون مهزومًا من أبواب موسكو، تولستوي الذي يقرأه العالم كله. اليوم العالم الحر الذي يدعي التعددية والحرية ها هو يشن هجومًا صليبيًا غير مسبوق على ليف تولستوي وفيودور دوستويفسكي، وجوركي ورسول حمزاتوف والموسيقار العظيم تشايكوفسكي، وقبل ذلك شن ويشن حروبًا لا تحصى على النبي محمد. في اتون كل الحروب ظل أدباء الغرب محل تقدير فلم يقلل أحد من شأن مثل شكسبير أو تشارلز ديكنز أو سارتر أو هيجل أو بتهوفن أو غيرهم ولو بحجة حرية التعبير.
هل يمكن أن تكون أوكرانيا باعثا لكل ذلك؟
ليس أكيدًا هذا الادعاء. الغرب لا يريد لروسيا أن تنتصر جاء هذا على لسان بعض المسؤولين الأوروبيين، ولذلك فهم مستعدون لتشغيل كل مصانع السلاح، وسيدعمون الحرب حتى اخر أوكراني.
الباعث الحقيقي هو التنافس الجيوسياسي والجيوستراتيجي والاقتصادي والعسكري بين الغرب (الولايات المتحدة وأوروبا الغربية) والشرق (روسيا والصين). الغرب لا يقبل المنافسة حتى ولو بأدوات السوق، وقد رأينا الحرب التجارية التي شنتها الولايات المتحدة والغرب ضد شركة هواوي الصينية للاتصالات، ولاحظنا الحرب التي خاضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ضد اللقاحات الروسية المضادة لفيروس كرونا ومتحوراته برغم الفعالية التي أثبتتها هذه اللقاحات.
أمريكا لا زالت تتجنب الإجابة عن سؤال جيوسياسي هام: هل تريد قيادة العالم أم تريد السيطرة عليه؟؟
أمريكا والغرب يريدان القضاء على روسيا من بوابة الاقتصاد وليس من نافذة الحرب لكن النتائج حتى الآن كانت عكسية تماما فلا زال الميزان التجاري الروسي يراكم فائضا، وحققت العملة الروسية حاليا تعافيا كبيرا قياسا لما كان عليه أواخر 2008.
يعرف الغرب أن لا طاقة له بروسيا اليوم، فقد قفزت قفزات مخيفة في مجال التسلح. ولكن يرى الغرب أن من الأفضل لو يتم اشغال روسيا بحرب تقليدية هجينة بالوكالة إلى جانب حرب الاقتصاد، فالحرب بالآخرين أقل تكلفة.
وإذا كانت الولايات المتحدة في حيرة من أمرها في تحديد على من يجب ان تشن الحرب أولا (ضد الصين أو ضد روسيا)، فكل من الصبن وروسيا تشكلان بالنسبة للولايات المتحدة تحديا أمنيا خطيرا ينبغي التعامل معه. الآن، ما دام وقد تمكن الغرب من جر روسيا إلى حرب حضارية فقد أنحلت معضلة أمريكا.
الصين من جانبها تدرك جيدًا أن محاصرة روسيا أو تحييدها تجعل من الصين الهدف التالي للناتو. فقد تخلت الولايات المتحدة فعليًا عن سياسة الصين الواحدة في علاقتها مع تايوان، وذهبت في هذا الجانب بعيدًا في دعم تايوان ليس فقط من خلال الدبلوماسية بل وزيادة توريدات السلاح إلى والتصريح المباشر باستعداد واشنطن للدفاع عنها.
رد الصين كان منسجمًا مع الواقع، فمن التصريح أنه لا توجد قوة يمكنها منع توحيد تايوان مع الصين إلى تعزيز التعاون مع روسيا ومد مزيد من الجسور نحو الشرق الاوسط في مقارعة للوجود الأمريكي.
على أن أهم ما فضحته الحرب هو حرية التعبير واجلاء الحقيقة من كل جوانبها. فبمجرد نشوب الحرب حتى سارع الغرب إلى حظر جميع وسائل الاعلام الروسية من الفضاء الكوني. يريد الغرب فرض حقيقته الخاصة فوق كل حقيقة. بل حتى ان "جوجل" تخلى عن قيمه التي يروج لها، فقد حظر جميع المواقع الروسية وفي سابقة خطيرة سمح ببث خطاب الكراهية تجاه الروس عبر مواقعه بالرغم ان "الكراهية من محظورات جوجل" الاساسية.
حرية التعبير والرأي أداة لتحقيق المصالح:
المتابع لكيفية التعامل مع مبدأ حرية التعبير والرأي على الطريقة الغربية سيجد دون عناء يُذكر العلاقة الوطيدة التي تربط بين المصالح الاقتصادية والجيوسياسية وبين هذا المَبدأ. كانت هيلاري كلينتون قد عَبَّرت عن هذا الترابط بأكثر من مثال في مذكِراتها، نحن سنُزيد من الشعر بيت في هذا الجانب:
يمكن أن يكون رد الفعل الغربي والأمريكي على مقتل جمال خاشقجي واعتقال المعارض الروسي نافالني مثالاً نموذجياً للازدواجية المعيارية للنظر في قضية واحدة من حيث الجوهر وهي قضية (حرية الرأي)، فالأول تم اغتياله حسب كثير من المصادر بسبب (هذه الحرية) بالذات والثاني تم اعتقاله بسبب حرية الرأي كذلك. مع فارق أن الأول تمت تصفيته وبينما الثاني وضع في السجن، لكن رد الفعل الأمريكي والغربي لم يكن متسقاً في الحالتين.
في حالة خاشقجي تقول الولايات المتحدة أنها فرضت عقوبة على أشخاص متهمين بالضلوع في القتل وهم على كل حال (مجهولين) في الغالب، وفي الحالة الثانية لم يكتفِ الغرب وأمريكا باتخاذ عقوبات على شخصيات عامة لها وزنها بل تجاوز الأمر ليطول مؤسسات اقتصادية روسية حيوية يأتي مشروع السيل الشمالي لنقل الغاز الى أوروبا على رأسها.
مقتل الصحفي الأمريكي في كييف أثناء المعارك وقنص الصحفية شيرين أبو عاقلة مثال آخر على النظرة المزدوجة وليس فقط لمبدأ حرية الرأي بل ولمفهوم الحقيقة المهنية للصحفي ففي الحالة الأولى سارع المعسكر الغربي للتنديد بروسيا باعتبارها (دولة معتدية) وبالتالي كثف من حجم عقوباته ضدها.
وأعتبر الادعاء الاوكراني حقيقة مطلقة لا ينبغي أن تدحض ولا يجب ذلك. وفي حالة الثانية سارعت الولايات المتحدة إلى تبني الرواية الإسرائيلية كحقيقة مطلقة وأن الجاني يجب أن يكون فلسطينياً إذا لم تكن شيرين نفسها هي الجاني... هذا قبل أن تنكشف حقائق دامغة على تورط القناصة الإسرائيليين في الاستهداف المتعمد للصحفية، ثم تتبدل الرواية الصهيونية للواقعة مرات عديدة. يحمل كل من الصحفي الأمريكي برنت رينود وشيرين أبو عاقلة الجنسية الأمريكية لكن الفارق أن الأول قتل في اوكرانيا وقتله (أمر مروع) بينما شيرين قتلها الصهاينة وذلك مجرد حادث عرضي، (لا توجد شبهة جنائية) قال الجيش الإسرائيلي. وتشترك اسرائيل والولايات المتحدة في جرائم قتل الصحفيين، فقد قتلت القوات الأمريكية أزيد من 22 صحفياً عراقياً غير العديد من الصحفيين الآخرين من جنسيات مختلفة في حربها ضد العراق، بينما قتلت القوات الإسرائيلية 46 صحفياً فلسطينياً ناهيك عن تدمير المؤسسات الإعلامية على غرار برج الاعلاميين في غزة (برج الجلاء) في مايو 2021. من هذه المقارنة يمكن للقارئ أن يستنتج لنفسه ما يعبر عن قناعاته وضميره.
السقوط الأمريكي الغربي في مستنقع العنصرية لا يحتاج إلى كثير عناء للبرهنة عليه.
كان من الممكن وضع مقارنة بسيطة وسهلة لذلك الموقف المتناقض للغرب إزاء حق الشعوب. الإشارة الى الهستيريا الغربية حول وضع الايجور في الصين ووضع مقارنة بينها وبين الموقف الغربي من حق الشعب الفلسطيني ريما يضع نوعًا من التشويش على وعي البعض الذي سيظهر امتعاضه من أن المقارنة تقلل من اهتمامنا بمسلمي "الايجور"، وكان بالإمكان الرد عليهم بالقول (على رسلكم "الايجور" هم جزء من الشعب الصيني وينبغي تشجيع الصين على احترام حقوق المسلمين في خصوصياتهم الحياتية والدينية والثقافية وبنفس المسار ينبغي دفع "الايجور" للاندماج في نسيج المجتمع الصيني وعدم الانجرار نحو حياة الانعزال بحجة تلك الخصوصية".
وبدلًا من ذلك قدم الغرب مثالًا أكثر حضورًا لعنصريته في موضوع حق الشعوب بجعل المقارنة أكثر وضوحًا. هذا الغرب نفسه لم ترف له عين عندما استغلت بريطانيا انتدابها على فلسطين لمساعدة الصهاينة على تشريد الشعب الفلسطيني من أرضه ودياره، ولم تحضره هذه العاطفة الجياشة نحو حق الشعب العربي الفلسطيني المسلم في العيش بأرضه كل أرضه كما هو حال الشعوب الغربية "الديموقراطية"!!!
يمكن اجراء مقارنة طازجة من أحداث معارك أوكرانيا عمليات التنكيل التي يمارسها الصهاينة ضد الفلسطينيين في شهر رمضان المبارك. ففي الوقت الذي تجري فيه الادارات الغربية الاتصالات وترسل الوفود لتهدئة الاوضاع في الأراضي المحتلة خوفًا من أن تشوش على حربها الاعلامية ضد روسيا. صرح وزير الدفاع الامريكي في لقاء مع نظيرته الكندية "الولايات المتحدة وكندا متفقون على وجوب مساعدة الشعب الأوكراني في تحرير بلاده"، ومنطقيا فهم أيضا متفقون على دعم الاحتلال الإسرائيلي عبر استمرار تزويد إسرائيل بكل أنواع الأسلحة لمواصلة سحق الشعب العربي في فلسطين بحجة الحفاظ على التفوق العسكري لإسرائيل.
في نفس الوقت تكثف توريدات الأسلحة والتدريب والدعم السياسي والاقتصادي لأوكرانيا وصلت إلى حد أن الإدارة الامريكية قامت بإحياء قانون يعود للحرب العالمية الثانية يسمح "للمجمع الصناعي العسكري بإيجار أو إعارة أو البيع الآجل للمعدات العسكرية"، ومن هنا يمكن تقدير حجم المنافع التي سيجنيها هذا المجمع من إطالة أمد الحرب. بلغ الدعم العسكري الأوروبي للحرب حسب بعض الاحصائيات 8 مليارات من الدولارات، بينما في أزمات مشابهة حول العالم لم يقدم الغرب إلا بضع مئات من الملايين. وفي هذا السبيل أقر الكونجرس دعم إضافي بمقدار 40 مليار دولار لمساعدة أوكرانيا، منها 20 مليار كدعم عسكري.
تتسارع توريدات السلاح إلى أوكرانيا تسارعًا يثير الريبة والشكوك. فليست أوكرانيا الدولة الوحيدة في العالم التي تخوض حربًا أو فلنقل تتعرض للحرب. ما لذي يجعل الغرب يسخر كل هذه الموارد لأوكرانيا، ذلك ليس لأن أوكرانيا دولة أوروبية، فيوغسلافيا الاتحادية كانت دولة أوروبية غير منحازة ومع ذلك خاص الغرب ضدها حربًا ضروسًا حتى دمر كل بنيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومزقها كل ممزق. وحولها إلى دويلات متناحرة. إنها صورة كاريكاتورية فاضحة لمعايير فهم الحرية والعدل والسيادة.
كما أن الاستقبال الحار في بولندا للأوكرانيين يفضح اكذوبة الانسانية لصالح حقيقة العنصرية، نتذكر جميعًا ما تعرض له طالبوا اللجوء على الحدود البيلاروسية البولندية من إذلال وإهانة وحط بالكرامة؟ ويمكن ان نتذكر كذلك وضع اللاجئين السورين والموقف الأوروبي المخزي منهم بالرغم أن حلف الناتو هو من أشعل الحرب في سوريا.
أسئلة كثيرة تتوارد في الذهن. لماذا يعرض الغرب نفسه لكل هذه الخسائر الاقتصادية ويعرض مجتمعاته لتوترات وهزات عنيفة تمس استقرارها المعيشي وحياة الرفاهية التي اعتادت عليها؟
صيد وفخاخ:
ما يجري في اوكرانيا الآن هو حصاد جملة من التحولات الدرامية تجري في هذه الدولة منذ 2004 ومع اندلاع النزاع العرقي شرق اوكرانيا واسقاط الحكومة الاوكرانية عام 2014 سعى الغرب إلى تأجيج ذلك النزاع واستثماره في حربه شبه الباردة مع روسيا الإتحادية، وبدلاً من الضغط على أطراف الازمة الاوكرانية لتنفيذ اتفاقيات مينسك سعى لعسكرة الازمة وضخ السلاح وتجميع وتدريب من تطلق عليهم روسيا النازيين الجدد في هذه الدولة المنكوبة.
وفقاً لعمل حثيث يبدو أن الجانب الروسي قد رصد صيداً ثميناً في مناطق اوكرانية عديدة. وبالتالي قرر بوتين القيام برحلة صيد محفوفة بالفخاخ الغربية الكثيرة. فرائس عديدة اقتنصتها روسيا، ربما أقلها أهمية المختبرات البيولوجية التي يمولها البنتاجون ويتورط فيها هنتر بايدن نجل الرئيس الأمريكي، ويشرف عليها البنتاجون.
رد الفعل الغربي، لم يكن عفوياً، بل متسقاً تماماً مع مخاوف تنتابه من انكشاف حقائق جديدة على الأرض الاوكرانية حول (أنشطة الأبحاث البيولوجية) واشتدت المخاوف كثيراً من حصار مصنع أزوف ستال. ماذا يخفي الغرب في مجمع أزوف ستال؟ ولماذا يستميت الرئيس الفرنسي للمشاركة في إجلاء المحاصرين من هناك؟ بينما يعم العالم بالحروب وبالمحاصرين ولم يهب الغرب لإجلائهم؟؟؟
كل هذا يحدث لأن بوتين يبحث عن شيء متأكد من وجوده في أوكرانيا ويهدد أمن وسلامة بلاده وهو يدرك جيد ان رحلة الصيد التي يقوم بها محفوفة بالفخاخ الغربية، بينما هناك شيء يحاول الغرب إخفاؤه ومستعد لعسكرة العالم حتى لا ينكشف أمره، والغرب لن يكف عن نصب الفخاخ لبوتين في كل مكان.
فتش عن المصلحة في كل حرب:
إذا ما عرفنا أن العلاقات الدولية محكومة بالمصالح الاقتصادية والنفوذ، والتموضع الجيوسياسي، فما هي مصلحة الغرب من كل هذه الخسائر إذا لم يكن خلفها مصالح أكثر شأنًا؟
لقد أنفق الغرب مئات السنين من تاريخه في حروب دامية حول العالم للسيطرة على الموارد والأسواق وطرق التجارة العالمية، أي أن هذا الغرب هو تاريخ من الاستعمار، لذلك فحدثيه عن الحرية حديث زائف عندما نضع الحرية والمصلحة في مقاربة جدية مع متطلبات الراهن الجيوسياسي العالمي، حيث برز إلى العلن منافسون على الهيمنة العالمية لم يكونوا متوقعين.
لقد انشغل الناتو والولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بتدمير الاتحاد السوفياتي، ومع نجاحهم الباهر في الوصول للهدف، إلا أن الاتحاد السوفياتي لم يكن صيدا سهلًا فقد كان منافسًا للغرب في جميع المجالات. لعب الفساد كثيرًا لصالح الغرب، لقد أكلت سوسة الفساد حبة المجتمع من الداخل. لكن الاتحاد السوفياتي ورًث مخزونًا هائلًا من ليس فقط من السلاح الأقوى والأحدث.
كان الغرب يعتقد أن تجميع السلاح الاستراتيجي في روسيا حيث الرئيس السكير يلتسن سيجعل من السهل تحول روسيا إلى دولة فاشلة فاقدة كل قدرة "إن فرعون هامان وجنودهما كانوا خاطئين". انشغال الغرب بالاتحاد السوفياتي أعطى فرصة سانحة للصين للنهوض. الصين دولة صامتة وصبورة، تعمل بهدوء ورصانة وثقة، وهذا ما ألمحت إليه وزير الخارجية الامريكية هيلاري كلينتون في مذكراتها. أدرك الغرب أن التهديد الأكبر يأتي من الصين، لكن الوقت كان قد فات، فالتنين ينفث الآن نارًا.
روسيا ضعيفة بالنسبة للغرب مقارنة بالصين، لكن روسيا تتمتع بمساحة شاسعة دفعت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية للتعبير عن نفسية أمريكا بالقول "ليس من العدل ان تكون سيبيريا لروسيا وحدها"، وهي تتوفر على مواد خام كثيرة تفتقد إليها دول الغرب، والصين لا تحتكم حاليًا على مثل تلك الخامات المتوفرة في روسيا، وهي بحاجة لها حاليا خاصة بعد ايقاف الولايات المتحدة تصدير الكثير من المواد الداخلة في الصناعات الصينية التي تعتبرها تهديدًا لها خاصة في مجال الاتصالات.
إذن:
ماذا لو حدث تكامل بين روسيا والصين؟
روسيا أقرب للصين كثيرًا كمورد للطاقة وموارد للخامات بمعني أن التهديد سيتعاظم على الغرب وعلى النظام الدولي برمته، هذا النظام المبني على الهيمنة الامريكية فقط. لماذا الامريكية فقط؟؟ لأن جميع الدول الغربية المؤسسة لحلف الناتو كانت منذ بدء النهضة الأوروبية والثورة الصناعية اما دول استعمارية أو جزء من دولة استعمارية، لكن الوقت قد تغير وذهبت قدرات هذه الدول وفقدت انيابها الحادة وأصبحت من الضعف بحيث تحتاج للحماية من الولايات المتحدة، وإلا ما معنى بقاء مئات الالاف من الجنود الأمريكيين في أوروبا خاصة بعد حل حلف وارسو؟؟
النظام الدولي الحالي الذي يدافع الغرب عن بقائه ليس هو ذات النظام الذي تشكل عقب الحرب العالمية الثانية. ذاك النظام كان ثنائيا، أما الحالي فهو النظام الذي تشكل عقب انهيار الإتحاد السوفيتي. أي نظام القطب الواحد.
سيناريو المستقبل القريب:
أمامنا سيناريو متصاعد لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع الدولية نتيجة الحرب في أوكرانيا. هذا لن يكون مرتبط بنتيجة الحرب. فبصرف النظر ما إذا كانت روسيا ستحقق أهدافها في عملياتها في أوكرانيا أم لا، أو أن الأمور ستتجه نحو حرب استنزاف غربي لروسيا حتى إضعافها، فالمسؤولون الأمريكيون لا يخفون رغبتهم في رؤية روسيا ضعيفة غير قادرة على الحركة، وبصرف النظر عن إمكانية التوصل إلى اتفاق صدفة بين الروس والأوكرانيون لإيقاف الحرب وتحقيق المطالب المتبادلة بالضمانات الأمنية الملزمة للطرفين فإننا سنرى التالي:
- المشهد الأول:
ستستمر الولايات المتحدة وحلفاؤها في الإمعان في فرض العقوبات الاقتصادية وغير الاقتصادية خارج إطار الأمم المتحدة حتى تتحول إلى نظام خاص مواز. هذا سيخلق وضعا متوترا ومخاوف عميقة على المستوى العالمي بخصوص سيادة الدول على مواردها وقرارها وسياستها الداخلية والخارجية.
الاجراءات الغربية بمصادرة الأصول والأموال الروسية في الدول الغربية وبنوكها ومؤسساتها المالية أدت فعليا إلى إثارة مخاوف الدول التي لها استثمارات ومشاريع وسندات سيادية غربية، وضاعفت الاجراءات التي أتخذها الغرب بعزل روسيا عن السويفت الدولي من تلك المخاوف. لهذا ستلجأ العديد من الدول إلى البحث عن بدائل مأمونة للتحويلات المالية الدولية ولو عبر بناء سويفت موازي أو اللجوء للاتفاقات الثنائية لاستخدام العملات الوطنية كمعيار للتبادل التجاري وفقًا لمعادل مقاصة متفق عليها. هذا الإجراء من شأنه أن يضعف قدرة الدولار على الهيمنة في المستقبل، ويخلق أسسًا جديدة للعلاقات الاقتصادية الدولية.
- المشهد الثاني:
الكثير من الدول ستشعر بخطورة التكالب الغربي وتنمره في سياق العلاقات الدولية المعاصرة ضد بعض الدول "المارقة" عن نظام القطب الواحد (روسيا - الصين) ولن تستبعد أن نصيبها من هذا التنمر محفوظ في عملية الصراع على البقاء، الأمر الذي سيجعلها مضطرة لتحديد موقف مستقبلي احترازي حمائي. ستلحق الهند بهذا الركب ومعها "مجموعة بريكست". مشاعر الخطورة هذه ستدفع بالكثير من الدول نحو البحث عن معادل قوي يعيد ميزان القوى العالمي إلى نصابه، وهذا لن يتحقق إلا بتشكل نظام ثنائي أو ثلاثي الأقطاب.
- المشهد الثالث:
قد يؤدي استمرار الضغط الغربي على روسيا من خلال مزيد العقوبات والمزيد من توريدات السلاح إلى أوكرانيا، والقيام ببعض العمليات الاستخبارية في الداخل الروسي أو على الحدود مع بعض دول الناتو، كما حصل (ترنسنيستيريا) المنشقة عن مولدوفا منذ 1992، قد يؤدي كل ذلك إلى امتداد نطاق الحرب ليشمل رقعة اوروبية واسعة. وكان سيرجيه لافروف قد حذر من أن الأسلحة الغربية المعنونة إلى أوكرانيا يمكن أن تصل إلى أيدي الإرهابيين كما حصل في سوريا.
وفي وضعٍ كهذا فإن الصين ستشعر بخطورة الموقف حول تايوان وليس من المستبعد أن تعمد لاتخاذ الخطورة الأولى بضم الجزيرة إلى حضن الوطن الأم، وسيجد الغرب نفسه مضطرًا لخوض حرب أخرى حول تايوان بعد تصاعد التهديد الأمريكي بمواجهة الصين إن هي حاولت إعادة توحيد الجزيرة بالقوة. ل قد حددت الإدارة الامريكية مهمة حلف الناتو بالالتزام بالدفاع عن تايوان وهي التي ترى نفسها صاحبة الحق الحصري في تفسير تصرفات الصين. هذا بحد ذاته سيحدث تغيرًا جيوستراتيجيًا دراميا عالميًا يقود نحو إعادة تقسيم العالم على نحوٍ مغاير لما هو سائد اليوم.
يبدو أن أوكرانيا ستكون أول دولة ستخضع للتقاسم. فبولندا تعتبر الغرب الأوكراني امتدادا تاريخيا لها، وهناك تفهم أمريكي لذلك بل ان مخطط ضم غرب أوكرانيا لبولندا قد بدأ بالفعل كما يقول المراقبون والروس منهم خصوصا، وستليها مولدوفا الصغيرة المحاذية لرومانيا. فقد جاء التصريح بذلك من داخل رومانيا نفسها.
وفي كل الأحوال فإن هذا السيناريو بتصاعده يصب فيما ذهبنا إليه: إعادة صياغة النظام الدولي لوجود لاعبين جدد ينافسون على النفوذ الدولي في المجالات الاقتصادية والجيوسياسية والعسكرية، فلم يعد العالم ساحة لنفوذ امبراطورية واحدة.
بقي أن نعرف أين ستضع بقية دول العالم نفسها في هذه المعمعة، هل ستكون مع الساعين نحو التغيير؟ أن ستكون من المحافظين على ما هو كائن، لأن التغيير يشكل لها رعبًا؟
أم ستكون على مقاعد المتفرجين حتى يقض الله أمرا كان مفعولا؟
د. أحمد سنان
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عدن الان ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عدن الان ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.