دخلتُ يومًا ما على أحد المديرين في منظمة محترمة، لإتمام إجراء معاملة، كان لدى هذا المدير مكتب واسع، وقد بدا أن كل شيء فيه في مكانه المناسب؛ أوراق ومعاملات مرتبة بعناية على مكتب كبير في المنتصف، وعلى جانبه الأيسر مكتب جانبي صغير عليه جهاز حاسب آلي، لا شيء عليه سواه. يجلس المدير على كرسي دوّار واسع، يتحرك بسلاسة في كل اتجاه، ويبدو أنه اعتاد استخدامه للتنقل بين المكتبين دون الوقوف. بعد انتظارٍ معقول حتى انتهى المراجعون قبلي، قدّمتُ إليه طلبي، فتناوله وبدأ يراجع الأوراق بسرعة تنظيمية واضحة. ثم ما لبث أن أدخل بيانات في الحاسب، فعاد بكرسيه إلى المكتب الكبير ليقارن شيئًا في المستند، ثم رجع مجددًا إلى الجهاز ليُدخل معلومة جديدة، ثم عاد... ثم ذهب. تكرر ذلك التنقل ثلاث أو أربع مرات، وكل مرة تستغرق منه حركة وانعطافة، وتعديلًا لوضعية الجلوس، وربما لحظة استيعاب لإعادة التركيز. كان إنجازه احترافيًا ودقيقًا وسريعًا، ولكن شيئًا ما لفت انتباهي كمتخصص في الإدارة. لقد أدركتُ أن المدير -رغم كفاءته- كان يكرر سلسلة من الحركات غير الضرورية: حركة بين مكتبين، ودوران متكرر، وانتقال ذهني بين أوراق وشاشة. استأذنتُ منه بلطف أن أطرح عليه ملاحظة تنظيمية، فرحب بابتسامة مهنية. قلت له: لفت نظري أسلوبكم المنظم في العمل، وحرصكم على الدقة. فقط خطر ببالي أنكم تتحركون كثيرًا بين المكتبين أثناء إدخال البيانات. ربما يمكن دمج نقاط العمل بوضع حامل أوراق بجوار الحاسب، أو نقل الحاسب إلى مكتبكم الأساسي. بهذا الشكل، قد يتم تقليص عدد الحركات، وتوفير وقت يُستثمر لإنجاز عدد أكبر من المعاملات بنفس الجودة والهدوء. ابتسم ووضح لي السبب المنطقي لوضع جهاز الحاسب على مكتبه الجانبي، وأثنى على المقترح، ثم غادرتُ المكان وأنا أعتقد أنه سيفكر في هذا الاقتراح ويطبقه يومًا ما.من المؤكد أنك صادفت هذا الموقف الحقيقي العملي في حياتك العملية. ويتجلى فيه منهجٌ علمي تطبيقي في علم الإدارة يُعرف باسم «دراسة الحركة والزمن» (Motion and Time Study) أو «القياس الزمني للحركة في العمل»، وهو منهج برز على يد رائد الإدارة العلمية فريدريك تايلور (Frederick Taylor) في بدايات القرن العشرين. ويُستخدم هذا المنهج تحديدًا في إدارة العمليات وتحسين الإنتاجية. ومن المثير للاهتمام أن لهذا المنهج أصلًا علميًا في الفيزياء الكلاسيكية، وتحديدًا في الميكانيكا التي وضع أسسها إسحاق نيوتن، مما يجعل هذا المفهوم جامعًا بين علم الإدارة وعلم الفيزياء.يُستخدم هذا المنهج لتحليل وتحسين أداء العمل من خلال دراسة عدد الحركات التي يقوم بها الموظف، والوقت المستغرق في أداء هذه الحركات، ويهدف إلى: زيادة الإنتاجية، وتقليل الهدر، والحد من الوقت الضائع، وتحسين الكفاءة المالية، وتطوير بيئة العمل. وفي هذا الموقف العملي، قمتُ بتحليل كل حركة بدنية قام بها المدير أثناء إتمام المعاملة، فوجدت أنه يمكن تقليل عدد الحركات غير الضرورية، ودمج بعضها، مثل: نقل جهاز الحاسب إلى مكتبه الرئيسي، وتحسين الحركات من خلال إضافة حامل للأوراق، وإعادة ترتيب تسلسل الحركات. وهذا كله يُسهم في تقليل الوقت وبالتالي خفض التكاليف.باختصار، دراسة الحركة والزمن أداة استراتيجية في علم الإدارة تُستخدم لرفع الكفاءة التشغيلية، وهي تمثل أحد أعمدة إدارة الجودة الشاملة والتحسين المستمر (Kaizen)، وتُعد ضرورية في القطاعات الصناعية والخدمية والتعليمية. أخيرًا، الكفاءة ليست فقط في العمل الجاد، بل في العمل الذكي! فلنستلهم من علم الإدارة لتحقيق أعلى إنتاجية بأقل جهد، فكل حركة محسوبة ترفع الإنتاج، وكل ثانية موفَّرة تزيد من كفاءة منظماتنا وتخدم اقتصاد وطننا السعودي القوي. فلنجعل تحسين الأداء سلوكًا وطنيًا يعكس رؤية السعودية الطموحة، فالتفاصيل الصغيرة تصنع الفارق الكبير. أخبار ذات صلة