تم النشر في: 15 أبريل 2025, 3:16 مساءً وسط دمار غزة الشامل، وحيث تتلاشى سبل الحياة المعتادة تحت وطأة القصف والحصار الإسرائيلي المستمر، يبرز دورٌ حاسم لرفيق الإنسان القديم: الحمار، لم يعد مجرد دابة لحمل الأثقال، بل تحول إلى شريان الحياة الأخير الذي يربط آلاف الفلسطينيين بالبقاء، في ملحمة إنسانية يروي فصولها أطباء بيطريون شجعان يخاطرون بكل شيء، ليس فقط لرعاية هذه الحيوانات الصابرة، بل للحفاظ على بصيص أمل في واقع مرير. صمود وعزيمة غادر الدكتور سيف الدين عيادته البيطرية المتنقلة قبل دقائق معدودة فقط من تحولها إلى ركام بفعل غارة جوية إسرائيلية عنيفة. شعر بالضربة وكأنها "زلزال يهبط من السماء". نجا هو وفريقه بأعجوبة، لكن كل ما تملكه العيادة من معدات وأدوية حيوية لعلاج الحيوانات المصابة والمهجورة في خضم الحرب، قد تبدد في لحظة. لم تكن تلك الحادثة الصادمة سوى أحدث فصول التحدي، فالفريق الذي يديره سيف الدين لصالح جمعية "ملاذات آمنة للحمير" الخيرية، اعتبرها نكسة مؤلمة، لا هزيمة تكسر الإرادة، وفقاً لصحيفة "الجارديان" البريطانية. أمضى سيف الدين الشهر التالي للغارة يجوب أنحاء القطاع المنكوب، في رحلة محفوفة بالمخاطر، باحثًا بين الأنقاض وتحت القصف عن أي أدوات أو أدوية متبقية يمكن أن تساعدهم على استئناف مهمتهم النبيلة. يصف سيف الدين ما حدث بأنه "اختبار لغايتنا، لمهمتنا، ولمرونتنا"، مضيفًا أن النجاة لم تكن نهاية القصة، "بل كانت مجرد بداية لصراع آخر"، حيث سُلبوا الأدوات التي ينقذون بها الأرواح. ورغم ذلك، يؤكد قائلاً: "لقد بدأنا من جديد، من الصفر، لأن الحيوانات لا تزال هنا، لا تزال بحاجة إلينا، ولن نتخلى عنها أبدًا". دور حيوي ومنذ اندلاع الحرب الحالية في أكتوبر 2023، عالج فريق سيف الدين المتنقل ما يزيد عن 7000 حمار وآلاف الحيوانات الأخرى، في شهادة حية على الدور المحوري الذي تلعبه هذه الدواب في حياة الفلسطينيين المحاصرين. فمع تدمير القصف الإسرائيلي الممنهج للبنية التحتية، وتناثر ركام الطرقات، وندرة المركبات العاملة، وشح الوقود الخانق بسبب الحصار، برز الحمار كبديل لا غنى عنه ووسيلة نقل أساسية. ملأت الحمير هذه الفجوة الحيوية؛ فهي تُستخدم لنقل البضائع الشحيحة، ونقل الأشخاص في رحلاتهم اليومية المضنية بحثًا عن فتات الطعام أو قطرة ماء، أو للوصول إلى المستشفيات القليلة العاملة. كما أصبحت وسيلة النقل شبه الوحيدة للعائلات النازحة التي تجبر على التنقل من منطقة لأخرى بأوامر عسكرية إسرائيلية، حاملة على ظهورها القليل المتبقي من أمتعتهم وذكرياتهم. يصفها الدكتور سيف الدين بأنها "الخيط الأخير الذي يربط الناس بالخدمات الأساسية التي هم في أمس الحاجة إليها". تحديات ميدانية يستذكر سيف الدين قصصًا مؤثرة لحمير أنقذت أرواحًا، كنقل نساء حوامل في حالة مخاض إلى المستشفيات، أو حمل جرحى إلى مكان آمن، أو مجرد الوقوف بصمت إلى جانب من فقدوا كل شيء، كأنها تقدم دفئًا رمزيًا في عالم بارد وقاسٍ. "إنها تعطي دون أن تطلب شيئًا في المقابل"، يقول سيف الدين. يواصل فريق "الملاذ الآمن" عمله الدؤوب رغم كل الصعاب؛ فالغارة الجوية التي استهدفتهم في 13 مارس لم تكن سوى عقبة إضافية إلى قائمة طويلة من التحديات تشمل الاقتراب من مناطق الخطر المباشر، واجتياز حواجز الطرق العديدة، والصراع اليومي لتأمين أبسط مقومات البقاء من طعام ومأوى لهم وللحيوانات التي يرعونها. تتنقل العيادة المتنقلة عبر مناطق غزة المختلفة، وتتمركز في نقاط محددة بأيام معينة ليتمكن الأهالي من جلب حيواناتهم المصابة للعلاج. لكن عمل الفريق لا يقتصر على ذلك، فهم يجوبون بأنفسهم المناطق المدمرة بحثًا عن الحيوانات المتروكة لمصيرها، ويتلقون استغاثات عبر الهاتف من أصحاب الحيوانات المريضة أو الجريحة، ولا يترددون في الاستجابة لنداءات الإنقاذ حتى من أخطر البؤر، معرضين حياتهم للخطر باستمرار. كرامة وأمل وتجري عملية العلاج بحذر وحساسية بالغين. يتم الاقتراب من كل حيوان بهدوء لتقييم حالته بدقة قبل تقديم الرعاية اللازمة، سواء كانت تضميد جراح ناجمة عن شظايا القصف، أو تجبير طرف مكسور، أو معالجة أعراض سوء التغذية الحاد المنتشر. بعد ذلك، لا يملك الفريق، بموارده الشحيحة للغاية، سوى الانتظار والأمل بأن تستجيب الدابة للعلاج وتتماثل للشفاء. يؤكد سيف الدين أنهم يخوضون "رحلة شخصية" مع كل حيوان، قائمة على منحه الكرامة والحساسية التي يستحقها بعد الصدمات الهائلة التي تعرض لها. وفي ظل شح المعدات الطبية، لا يعتمد الفريق على العلم وحده، بل يستمد قوته من "قوة الإرادة المطلقة". ويختتم سيف الدين حديثه بنبرة تمتزج فيها المرارة بالأمل: "عندما تتحسن حالتهم، لا نحتفل، فهم ليسوا غنائم. نقف بهدوء إلى جانبهم... ولكن في الداخل، يهمس جزء منا بدعاء شكر". إنها قصةٌ تُظهر كيف يمكن للرابط بين الإنسان والحيوان أن يصمد ويُبقي شعلة الأمل متقدة، حتى في أحلك الظروف، ليطرح تساؤلاً صامتاً عن حدود الصمود الإنساني والحيواني معاً في وجه قسوة الحرب وعبثيتها.