تُمثل المعرفة الركيزة الأساسية التي قامت عليها الحضارات الإنسانية، فعند التأمل في مسيرة البشرية، يتبادر إلى الذهن سؤال جوهري: إلى أي مدى كنا سنصل، وما الإنجازات التي كنا سنحققها لولا التراكم المعرفي الضخم الذي ورثناه وطورناه؟ فكل إنجاز بشري عظيم، سواء كان بناء مركبة فضائية قادرة على التحليق بعيدًا بين النجوم والكواكب متحدية جاذبية الأرض، أو تطوير علاج يمنح الأمل للمرضى، هو نتاج مباشر لعمليات معقدة من إنشاء المعرفة، ومشاركتها عبر الأجيال والثقافات المتنوعة، بالإضافة إلى التحقق الدقيق من صحة هذه المعرفة.
لذلك يمكن القول بثقة إن المعرفة تُعدّ هي أثمن سلعة نمتلكها كبشر؛ فهي الكنز الحقيقي الذي شكّل بدقة مسار تطورنا وتقدمنا عبر مختلف العصور والحقب التاريخية.
وقد ارتبطت رحلة المعرفة الإنسانية على مر العصور ارتباطًا وثيقًا بتطور التكنولوجيا، إذ كانت الأدوات التكنولوجية دائمًا وسيلتنا لتسجيل المعرفة ونشرها وتداولها، وذلك بدءًا من الألواح الطينية، التي حفظت بواكير أفكارنا، ووصولًا إلى الأجهزة اللوحية الإلكترونية التي تحمل بين طياتها مكتبات العالم وتضعها في جيوبنا الآن.
واليوم، نقف على أعتاب ما يمكن وصفه بثورة معرفية جديدة، ثورة لا تقل أهمية عن اختراع تقنية الطباعة، الذي أحدث نقلة نوعية في انتشار الأفكار، أو ثورة بزوغ العصر الرقمي، الذي حول طريقة وصولنا إلى المعلومات وتفاعلنا معها، بل قد تتجاوزهما في مداها وعمق تأثيرها.
ويتمثل محرك هذه الثورة المعرفية القادمة في تقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي، السريعة التطور التي تتمتع بقدرة غير مسبوقة على جمع كميات ضخمة من المعرفة المتناثرة عبر شبكة الإنترنت وتلخيصها، وكل ذلك ببساطة بضغطة زر واحدة.
وقد بدأ تأثير هذه التقنية بالتبلور والظهور في مختلف جوانب حياتنا، بدءًا من الفصول الدراسية، التي تشهد طرقًا جديدة للتعلم والبحث، ومرورًا بقاعات مجالس الإدارة حيث تُتخذ القرارات بناءً على تحليلات البيانات، والمختبرات العلمية التي تشهد تسارع وتيرة الاكتشافات، ووصولًا إلى جهود الحفاظ على الغابات المطيرة التي تستفيد من قدرات الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات البيئية المعقدة.
ويطرح هذا التطور تساؤلات جوهرية، مثل: ما الذي نتوقع أن يفعله الذكاء الاصطناعي التوليدي بممارساتنا المعرفية الراسخة، وهل يمكننا التنبؤ بكيفية تأثير هذه التقنية في طبيعة المعرفة البشرية نفسها، سواء كان ذلك تأثيرًا إيجابيًا يعزز فهمنا وتقدمنا، أو تأثيرًا سلبيًا قد يقوض أسسنا المعرفية؟
قوة الطباعة وتأثيرها:

لإدراك حجم الثورة المعرفية التي نشهدها اليوم، من الضروري النظر إلى التحولات التاريخية الكبرى التي سبقتها، ويبرز في هذا السياق اختراع تقنية الطباعة، وبالتحديد استخدام الحروف المتحركة القابلة لإعادة الاستخدام، الذي اخترعه الصائغ الألماني يوهانس غوتنبرغ في عام 1440 ميلادي تقريبًا، كحدث محوري ذي تأثير ضخم في نشر المعرفة وتوزيعها على نطاق واسع بين ملايين الأفراد، مما أحدث تغييرات جذرية وعميقة في مختلف جوانب الحياة الإنسانية.
فقد سمحت هذه التقنية بإنتاج الكتب بتكلفة أقل بكثير وبجهد بشري أقل، مما أدى إلى إضفاء طابع ديمقراطي حقيقي على المعرفة وجعلها أكثر سهولة ويسرًا لعامة الناس. ومع ذلك، من المهم أن نتذكر أن المعرفة البشرية كانت موجودة قبل اختراع الطباعة بوقت طويل، فقد ازدهرت أشكال المعرفة غير المكتوبة عبر آلاف السنين، ويعمل الباحثون المعاصرون حاليًا على الكشف عن المهارات المعرفية المتقدمة والقدرات الاستثنائية للذاكرة، التي كانت متأصلة في هذه التقاليد الشفهية الغنية، مما يدل على القوة والمرونة الكبيرة لنقل المعرفة عبر الحوار والرواية المتوارثة.
كما أدت ثقافة النسخ اليدوي دورًا أساسيًا في الحضارات القديمة، فقد عمل الكُتّاب كقنوات رئيسية للحفاظ على القوانين والتعاليم الدينية والنصوص الأدبية المهمة، التي شكلت أسس تلك المجتمعات، وقد كان هؤلاء الكُتّاب في الغالب أفرادًا يتمتعون بنفوذ ومكانة اجتماعية مرموقة، لذلك كانوا يتاجرون بالمواد المكتوبة بخط اليد مع الملوك والنبلاء والطبقات العليا في المجتمع، مما جعل المعرفة سلعة قيمة ونادرة ومحدودة الوصول إلى فئة قليلة من الناس.
ولكن كان اختراع الطباعة هو التقنية التي حطمت هذا الاحتكار المعرفي، وغالبًا ما توصف تقنية الطباعة بأنها شكل من أشكال التواصل (من واحد إلى كثيرين)، فقد أتاحت توفير المعلومات بتكلفة معقولة لشرائح واسعة من السكان، مما أذن ببداية عصر جديد ومختلف تمامًا في تاريخ المعرفة البشرية وانتشارها.
وقد ارتبطت هذه الزيادة الضخمة في نشر المعرفة بحدوث تحولات مجتمعية ضخمة وعميقة، بدءًا من عصر النهضة الأوروبية، الذي شهد ازدهار الفنون والعلوم والأفكار، ووصولًا إلى صعود الطبقة الوسطى، التي كان لها دور كبير في تشكيل المجتمعات الحديثة. ومع مرور قرون عديدة على هذا الاختراع العظيم، ما زلنا نسعى جاهدين إلى فهم النطاق الكامل لآثاره البعيدة المدى في المجتمع واستيعابها.
العصر الرقمي وثورة التواصل المفتوح:
جاءت الثورة المعرفية التالية مع اختراع الحاسوب، والأهم من ذلك، مع ربط ملايين الحواسيب حول العالم عبر شبكة الإنترنت، فقد صنع ذلك واقعًا جديدًا يوصف غالبًا بنموذج التواصل (من كثيرين إلى كثيرين)، وهو تحول نوعي بعيدًا عن نموذج (واحد إلى كثيرين)، الذي هيمنت عليه وسائل الإعلام التقليدية والطباعة، فقد وفر الإنترنت وسيلة غير مسبوقة للأفراد للتواصل المباشر، وتبادل الأفكار والمعلومات والتعلم من مصادر متنوعة دون قيود جغرافية.
وفي الأيام الأولى لظهور الإنترنت، كانت منصات مثل لوحات النشرات الإلكترونية (USENET) بمنزلة غرف دردشة رقمية تتيح تبادل المعلومات الجماعية المصدر دون أي وسيط أو رقابة مركزية، ومع التزايد المطرد في أعداد مستخدمي الإنترنت، نمت أيضًا الحاجة إلى تنظيم المحتوى المتداول والإشراف عليه لضمان جودته وموثوقيته. ومع ذلك، ظل الدور الأساسي للإنترنت قائمًا كأكبر مكتبة مفتوحة الوصول في تاريخ البشرية، إذ يتيح الوصول إلى كميات ضخمة من المعلومات للجميع بغض النظر عن موقعهم الجغرافي أو خلفيتهم الاجتماعية أو الاقتصادية.
الذكاء الاصطناعي التوليدي.. أمين مكتبة شخصي أم تحدٍ وجودي؟
يدخل الآن الذكاء الاصطناعي التوليدي الساحة كقوة تحويلية جديدة في تاريخ المعرفة، فهذه التقنية السريعة التطور، تشير بدقة إلى فئة متطورة من نماذج التعلم العميق، التي تتمتع بقدرة فريدة على إنشاء مخرجات تحاكي بنحو لافت للنظر الإبداع البشري عبر وسائط متنوعة، تشمل: النصوص المكتوبة، والصور المرئية، ومقاطع الفيديو المتحركة، والمحتوى الصوتي، وتتضمن الأمثلة البارزة لهذه النماذج الرائدة ChatGPT، و Gemini، و Dall-E المتخصص في توليد الصور، و DeepSeek المتعدد القدرات.
وتبشر هذه التقنية الجديدة بأن تصبح بمنزلة أمين مكتبتنا الشخصي الرقمي، مما يقلل بنحو كبير من حاجتنا إلى بذل الجهد في البحث عن كتاب، ناهيك عن عملية فتحه وتصفح صفحاته، بل وصل الأمر إلى أننا لم نعد بحاجة حتى إلى تصفح قوائم المصادر الإلكترونية أو قواعد البيانات الرقمية للعثور على ما نبحث عنه.
إذ يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي، الذي دُرب على كميات ضخمة من البيانات التي أنتجها البشر، أن يولد كميات ضخمة من المعلومات المعقدة، وذلك عبر نطاق واسع ومتنوع من المؤلفين، والمواضيع، والحقب الزمنية المتباينة، وتقديم إجابات لمعظم الأسئلة التي يطرحها المستخدم.
بالإضافة إلى ذلك، يتميز الذكاء الاصطناعي التوليدي بقدرته على تخصيص مخرجاته بنحو دقيق لتناسب احتياجات المستخدم الفردية، إذ يمكنه تقديم المعلومات المطلوبة بلغات متعددة وبالنبرة الصوتية التي يفضلها المستخدم.
لذلك يُروج للذكاء الاصطناعي التوليدي على أنه الأداة المطلقة لإضفاء الطابع الديمقراطي على المعرفة وجعلها في متناول الجميع، وذلك من خلال تكييف المعلومات لتناسب اهتمامات كل شخص، وسرعة استيعابه الفردية، وقدراته المعرفية المتنوعة، وأسلوبه التعليمي المفضل، وهو ما يمثل بالفعل إمكانات استثنائية.
ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أن الذكاء الاصطناعي التوليدي قد يقع أحيانًا في ما يُعرف باسم (الهلوسة)، وهي ظاهرة تقنية تعني أنه سيقدم معلومات غير موثوقة أو غير صحيحة تمامًا، بدلًا من الاعتراف صراحةً بأنه لا يمتلك الإجابة الصحيحة للسؤال المطروح.
بالإضافة إلى ذلك، سيؤدي تزايد اعتمادنا على الذكاء الاصطناعي كمصدر المعلومات الأساسي في حياتنا اليومية إلى دخولنا مرحلة جديدة وحاسمة في تاريخ العلاقة المعقدة بين المعرفة والتكنولوجيا. فهو يطرح تحديات جوهرية لمفهوم المعرفة البشرية ذاته، بما يشمل: كيفية تأليف هذه المعرفة وإنتاجها، ومن يملك الحق في ملكيتها، وما معايير التحقق من صحتها وموثوقيتها؟
كما ينطوي الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي على خطر حقيقي يتمثل في التخلي غير المقصود عن الثورة المعرفية الضخمة التي أحدثتها الطباعة، التي نقلت المعرفة من نطاق ضيق إلى جمهور واسع، كما يهدد هذا التوجه بالتقليل من الإمكانات الكبيرة التي يتيحها الإنترنت في تحقيق تفاعل معرفي واسع النطاق وتبادل معلومات بين أعداد كبيرة من الأفراد.
وفي هذا السياق، يبرز تساؤل مهم للغاية: هل يؤدي الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى اختزال الثراء والتنوع الهائل للأصوات والمعارف البشرية إلى مجرد رتابة صوت واحد مهيمن، مما يقوض التعددية الفكرية والإبداعية التي لطالما ميزت الحضارة الإنسانية؟
مفارقة الذكاء الاصطناعي التوليدي.. هل يُعزز التفكير أم يُضعفه؟
تتشكل المعرفة في الغالب عبر تفاعلات ديناميكية تتضمن النقاش المستفيض، والجدل البناء، والتحدي الفكري المحفز، فهي تعتمد بنحو أساسي على الاجتهاد الفردي، والتفكر العميق في المعلومات، والتطبيق العملي للمعرفة المكتسبة.
والسؤال المحوري الذي يطرح نفسه بقوة في عصرنا الحالي هو: هل يساهم الذكاء الاصطناعي التوليدي في تعزيز هذه الصفات الأساسية لتكوين المعرفة أم يقوضها؟ الإجابة عن هذا التساؤل لا تزال مفتوحة وقيد الدراسة، وتشير الأدلة المتوفرة حتى الآن إلى نتائج متباينة ومعقدة.
إذ كشفت بعض الدراسات عن نتائج واعدة تشير إلى أن استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي قد يحفز التفكير الإبداعي لدى الأفراد وينميه، في حين يوجد دراسات أخرى لا تدعم هذه النتائج بنحو قاطع، بل تشير إلى تأثير محدود في القدرات الإبداعية، وتثير مخاوف من أنه قد يقلل من إمكاناتنا الجماعية على المدى الطويل وقدرتنا على التعاون الفكري المثمر.
وفي سياق التعليم، يشعر معظم المعلمين بقلق بالغ من أن الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي التوليدي قد يضعف بنحو كبير مهارات التفكير النقدي لدى الطلاب وقدرتهم على تحليل المعلومات وتقييمها.
وعلى نطاق أوسع، تؤكد الأبحاث المتعلقة بظاهرة (فقدان الذاكرة الرقمي) أننا نميل اليوم إلى تخزين كميات أقل من المعلومات في رؤوسنا مقارنة بما كنا نفعله في الماضي، وذلك بسبب اعتمادنا المتزايد على الأجهزة والتقنيات الرقمية في حياتنا اليومية. وفي سياق متصل، يتزايد اعتماد الأفراد والمؤسسات بنحو مقلق على التكنولوجيا الرقمية في كافة جوانب الحياة.
وبالنظر إلى التاريخ الغني بالتجارب والحكم كمصدر قيم للإلهام، نجد أن الفيلسوف اليوناني سقراط، قد صاغ قبل أكثر من 2500 عام حكمة بليغة ومؤثرة لا تزال تحتفظ برونقها وأهميتها حتى يومنا هذا: “تكمن الحكمة الحقيقية في الإدراك العميق لحدود معرفتنا الفردية، وفي القدرة الصادقة على الاعتراف الصريح باللحظات التي نجهل فيها شيئًا ما”.
لذلك إذا كان الذكاء الاصطناعي التوليدي يحمل في طياته إنذارًا ضمنيًا بإمكانية تحويلنا إلى أفراد أغنياء بكم ضخم من المعلومات المتاحة بسهولة، ولكن في الوقت نفسه فقراء في القدرة على التفكير النقدي المستقل والتحليل العميق، أو أن نصبح أفرادًا مُلمين بسطحيات المعرفة ولكننا ننتمي إلى مجتمع يعاني جهلًا، فقد تكون كلمات سقراط الخالدة هي الجزء الثمين من المعرفة الإنسانية، الذي نحن في أمس الحاجة إليه الآن، لنبحر في هذه الثورة الجديدة بوعي وحكمة ونتجنب الوقوع في فخ الوفرة السطحية على حساب العمق الفكري والوعي الحقيقي.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة البوابة العربية للأخبار التقنية ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من البوابة العربية للأخبار التقنية ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.