د. رامي كمال النسور * شهد الدين القومي للولايات المتحدة ارتفاعاً غير مسبوق، متجاوزاً مستويات قياسية، ومثيراً مخاوف جدية بشأن تداعياته الاقتصادية طويلة الأجل. ففي السنوات الأخيرة، وصل الدين الأمريكي إلى مستويات قياسية، وتشير التوقعات إلى زيادات إضافية بسبب عجز الموازنة المستمر، وارتفاع أسعار الفائدة، وتنامي الإنفاق الحكومي. وبينما يمكن للاقتراض أن يساعد على تمويل البرامج الأساسية وتحفيز النمو الاقتصادي، فإن مستويات الدين المفرطة تُشكل مخاطر جسيمة على كل من اقتصاد الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي.مؤخراً تجاوز الدين الحكومي في الولايات المتحدة 36 تريليون دولار لأول مرة على الإطلاق، وأظهرت بيانات موقع وزارة الخزانة الأمريكية في نهاية عام 2024، ارتفاع الدين العام إلى 36.034 تريليون دولار بعدما سجل 34.006 تريليون دولار في أوائل شهر يناير من نفس السنة ولامس 33 تريليون دولار في سبتمبر 2023. وفي هذا المقال سنحاول أن نستعرض أهم الآثار التي تترتب على هذا الأمر على مستوى الاقتصاد الأمريكي والعالمي ومن الطبيعي أن نتطرق إلى ذلك لأن كل دول العام ستتأثر بما يحدث للاقتصاد الأمريكي سواء بشكل مباشر أو غير مباشر وبشكل يتفاوت من دولة إلى أخرى بحسب طبيعة التشابك مع الاقتصاد الأمريكي. من أبرز العواقب المباشرة لارتفاع الدين الأمريكي زيادة مدفوعات الفائدة على الاقتراض الحكومي. فمع ارتفاع أسعار الفائدة، ترتفع كلفة خدمة الدين، ما يُقلل من حجم الأموال المتاحة للبنية التحتية، والرعاية الصحية، والتعليم، والبرامج الاجتماعية. في عام 2023 وحده، أنفقت الحكومة الأمريكية أكثر من تريليون دولار على مدفوعات الفائدة، متجاوزةً بذلك الإنفاق على الدفاع. قد يؤدي هذا الاتجاه إلى زيادة الضرائب أو تخفيضات الإنفاق في القطاعات الحيوية، ما يؤثر في الخدمات العامة والاستقرار الاقتصادي، وهو ما يقوم به حالياً الرئيس الأمريكي ترامب.ويمكن أن يسهم عبء الديون المتزايد باستمرار في التضخم من خلال زيادة الإنفاق الحكومي بما يتجاوز المستويات المستدامة. إذا لجأ الاحتياطي الفيدرالي إلى طباعة المزيد من النقود لتمويل العجز، فقد يؤدي ذلك إلى انخفاض قيمة العملة، ما يجعل الواردات أكثر كلفة ويقلل من القوة الشرائية للأمريكيين. وإضافة إلى ذلك، قد يؤدي ارتفاع مستويات الديون إلى زعزعة ثقة المستثمرين في الدولار الأمريكي، الذي لا يزال عملة الاحتياطي الرئيسية في العالم. إذا بدأ المستثمرون الأجانب والبنوك المركزية في تنويع استثماراتهم بعيداً عن الدولار، فقد يؤدي ذلك إلى إضعاف مكانته العالمية بشكل أكبر.ويمكن أن يؤدي الاقتراض الحكومي المفرط إلى ارتفاع أسعار الفائدة، ما يزيد من كلفة حصول الشركات والأفراد على قروض للاستثمار وتملك المنازل وتوسيع الأعمال. هذه الظاهرة، المعروفة باسم المزاحمة crowding out، تحد من نمو القطاع الخاص وابتكاره، ما قد يؤدي إلى تباطؤ التنمية الاقتصادية على المدى الطويل. إذا واجهت الشركات شروطاً ائتمانية أكثر صرامة، فقد يؤدي ذلك إلى تقليل فرص العمل ونمو الأجور، ما يؤثر على الاقتصاد ككل.ويأتي كل ما ذُكر أعلاه لينعكس على الاقتصاد العالمي، حيث إن الولايات المتحدة الأمريكية بصفتها أكبر اقتصاد في العالم، فإن الوضع المالي لها ستكون له تداعيات عالمية. إذا فقد المستثمرون الثقة في قدرة الولايات المتحدة على إدارة ديونها، فقد يؤدي ذلك إلى تقلبات في السوق وحتى أزمة مالية عالمية. وقد تبدأ الدول التي تحتفظ بكميات كبيرة من سندات الخزانة الأمريكية، مثل الصين واليابان ببيع ممتلكاتها منها، ما يؤدي إلى ارتفاع عائدات السندات وعدم استقرار الأسواق العالمية.تتطلب معالجة أزمة الديون الأمريكية إرادة سياسية وقرارات مالية صارمة. تشمل الحلول المحتملة خفض الإنفاق على البرامج التقديرية وإصلاحات الاستحقاقات زيادات ضريبية لتوليد إيرادات إضافية. وكذلك استراتيجيات النمو الاقتصادي لزيادة دخل الحكومة من دون زيادة الضرائب. وهذا كله أو جزء منه بدأ به الرئيس الأمريكي المنتخب مؤخراً.ومع ذلك، غالباً ما يحول الصراع الحزبي في واشنطن من دون التوصل إلى حلول شاملة، ما يؤدي إلى حلول قصيرة الأجل مثل رفع سقف الدين من دون معالجة التحديات المالية الأساسية.أخيراً في حين أن الحكومة الأمريكية دأبت على إدارة مستويات الديون المرتفعة تاريخياً، فإن المسار الحالي يفرض مخاطر اقتصادية جسيمة. إذا تُرك عبء الدين من دون رادع، فقد يحد من خيارات السياسات المستقبلية، ويعرقل النمو الاقتصادي، ويضعف الوضع المالي للبلاد. لذا، تُعد الإصلاحات المالية العاجلة ضرورية لضمان الاستقرار الاقتصادي طويل الأجل ومنع أزمة قد تؤثر في كل من الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد العالمي.ويبقى السؤال: هل سيتخذ الرئيس ترامب وفريقه في الإدارة الأمريكية الخطوات اللازمة لمواجهة هذا التحدي المتزايد قبل فوات الأوان؟* مستشار الأسواق المالية والاستدامة