- عندما عصفت رياح الكساد الكبير بالاقتصاد العالمي في ثلاثينيات القرن الماضي، وقفت النظريات الاقتصادية التقليدية عاجزة عن إدراك كُنه الانهيار، أو اقتراح حلول للخروج من غياهب الأزمة.
- وذهب الاعتقاد الراسخ آنذاك إلى أن الأسواق الحرة تمتلك قدرة ذاتية على تصحيح مسارها، وأن أي تدخل حكومي قد يزيد الطين بلة ويُعقد المشهد.
- غير أن الخبير الاقتصادي البريطاني الفذ، جون ماينارد كينز، قلب هذه المسلمة رأسًا على عقب، وأرسى دعائم نظرية اقتصادية مبتكرة ترتكز على تدخل الدولة كفاعل رئيس لدعم الطلب الكلي وتحقيق الاستقرار المنشود للاقتصاد، وهي النظرية التي غدت فيما بعد قوام الاقتصاد الحديث وركيزته الأساسية.
ما هو الاقتصاد الكينزي؟
- يتبلور جوهر الاقتصاد الكينزي حول فكرة محورية مفادها أن الطلب الكلي، أي الحصيلة الإجمالية لإنفاق الأسر والشركات والحكومة، هو المحرك الأوحد للنشاط الاقتصادي برمته.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
- ويذهب كينز إلى أن الأسواق الحرة قد تعجز في كثير من الأحيان عن بلوغ ذروة التشغيل الكامل، وأن الأزمات الاقتصادية قد تطول أمدًا وتترسخ دون تدخل حكومي فعّال لتحفيز الإنفاق والاستثمار وإعادة الدورة الاقتصادية إلى مسارها الصحيح.
المبادئ الجوهرية للاقتصاد الكينزي:
- تقوم النظرية الكينزية على ثلاثة مبادئ أساسية تلقي الضوء على كيفية عمل الاقتصاد وتفسر دواعي تدخل الحكومات في بعض المنعطفات:
1- الطلب الكلي هو قاطرة النمو الاقتصادي:
- يتحدد مسار النمو الاقتصادي بناءً على محصلة إنفاق الأسر، واستثمارات الشركات، والإنفاق الحكومي، وصافي الصادرات.
- في فترات الانكماش الاقتصادي، يشهد إنفاق الأفراد تراجعًا ملموسًا نتيجة لتراجع الثقة في قوة الاقتصاد، مما يفضي إلى تباطؤ وتيرة الإنتاج وتفاقم حدة البطالة.
- يرى كينز أنه يتعين على الدولة أن تنهض بدور فاعل عبر زيادة الإنفاق العام لتعويض النقص الحاصل في الطلب وتحريك عجلة الاقتصاد الراكدة.
2- الأسواق لا تصلح حالها بنفسها على الدوام:
- خلافًا للمدرسة الكلاسيكية التي تفترض مرونة الأسعار والأجور وقدرتها على التكيف التلقائي مع تقلبات السوق، يرى كينز أن الأسعار والأجور تتسم في الغالب بالجمود والصلابة.
- وخلال فترات الركود، لا تنخفض الأجور بالسرعة الكافية لتحفيز الإقبال على التوظيف، مما يؤدي إلى استمرار شبح البطالة لفترات مطولة.
- الحل الكينزي الأمثل: تدخل الدولة بشكل حاسم لدعم الإنفاق وإيجاد فرص عمل جديدة عبر إطلاق مشاريع البنية التحتية الطموحة وتوسيع مظلة الإنفاق الحكومي.
3- دور الحكومة المحوري في تحقيق الاستقرار الاقتصادي:
- يذهب كينز إلى أن الدورات الاقتصادية (فترات الازدهار والركود) قد تستفحل وتصبح أكثر حدة وتقلبًا إذا تركت لآليات السوق وحدها.
- في غضون فترات الركود، يتعين على الحكومة أن تبادر إلى زيادة الإنفاق العام وتخفيض الضرائب لتحفيز الطلب الكلي وإنعاش الاقتصاد.
- أما في فترات الازدهار، فيجب على الحكومة أن تعمل على تقليص الإنفاق ورفع الضرائب لكبح جماح التضخم ومنع تفاقمه.
- تُعرف هذه السياسة الرشيدة باسم "السياسة المالية المعاكسة للدورات الاقتصادية"، وهي تُعد من أهم الأدوات التي يرتكز عليها الاقتصاد الكينزي.
كيف تتجسد السياسات الكينزية على أرض الواقع؟
تلجأ الحكومات خلال الأزمات الاقتصادية الطاحنة، إلى الأدوات الكينزية الفعالة لتحفيز الاقتصاد وانتشاله من عثرته، ومن بين هذه الأدوات:
1- الإنفاق بالعجز: عندما يعاني الاقتصاد الوطني من وطأة الركود، يحق للحكومة أن تزيد من حجم إنفاقها على مشاريع البنية التحتية الحيوية (مثل شق الطرق وبناء المستشفيات والمدارس) حتى لو أفضى ذلك إلى تسجيل عجز مؤقت في الميزانية العامة للدولة.
2- خفض الضرائب: يسهم تقليل الأعباء الضريبية الملقاة على عاتق الأفراد والشركات في زيادة الدخل المتاح للإنفاق، مما يعزز الطلب الكلي ويدفع عجلة الاقتصاد إلى الأمام.
3- السياسة النقدية التوسعية: يمكن للبنوك المركزية أن تخفض أسعار الفائدة تشجيعًا للاقتراض والاستثمار وتحفيزًا للنشاط الاقتصادي.
تحديات الاقتصاد الكينزي:
- على الرغم من النجاحات الباهرة التي حققتها النظرية الكينزية في معالجة العديد من الأزمات الاقتصادية العالمية، إلا أنها واجهت انتقادات جمة وتحديات جسيمة، لا سيّما خلال سبعينيات القرن العشرين، عندما شهد العالم بأسره حالة فريدة من نوعها من الركود التضخمي (الذي يجمع بين شبح التضخم وارتفاع معدلات البطالة في آن واحد).
- يرى الاقتصاديون الناقدون لهذه النظرية، وعلى رأسهم ميلتون فريدمان، أن التوسع النقدي المفرط هو السبب الجوهري وراء تفشي التضخم، وأنه يجب الحدّ من التدخل الحكومي في الاقتصاد قدر المستطاع.
- يعتقد أنصار المدرسة الكلاسيكية الجديدة أن الأفراد يتوقعون تأثير السياسات الاقتصادية بشكل مسبق، مما يقلل من فعّاليتها وجدواها على المدى الطويل.
- تتزايد المخاوف المشروعة من أن الإنفاق الحكومي المفرط قد يؤدي إلى عجز مالي متفاقم وديون ضخمة تثقل كاهل الأجيال القادمة وتقوض مستقبلها الاقتصادي.
عودة الاقتصاد الكينزي في القرن الحادي والعشرين:
على الرغم من التحديات التي واجهتها النظرية الكينزية، إلا أن الأزمات الاقتصادية المعاصرة أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أن الأدوات الكينزية لا تزال تحتفظ بفعاليتها وقدرتها على مواجهة التحديات، فقد لجأت العديد من الدول حول العالم إلى تبني سياسات كينزية صريحة خلال الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وجائحة كورونا التي اجتاحت العالم في عام 2020:
- في الولايات المتحدة، ضخت الحكومة الفيدرالية تريليونات الدولارات في شرايين الاقتصاد الوطني لدعم الأفراد والشركات التي تضررت بشدة من الجائحة وتداعياتها الاقتصادية.
- في أوروبا، سارعت الحكومات إلى تبني خطط التحفيز المالي الطموحة لحماية الوظائف والقطاعات الاقتصادية الأساسية من الانهيار.
- في الصين، استثمرت الحكومة الصينية بكثافة في مشاريع البنية التحتية الضخمة بهدف تعزيز النمو الاقتصادي ودفع عجلة التنمية المستدامة.
مستقبل الاقتصاد الكينزي:
مع تفاقم التحديات الاقتصادية التي تواجه العالم اليوم، تشهد النظرية الكينزية تطورًا ملحوظًا يواكب المستجدات ويشمل قضايا جديدة وملحة، من بينها:
- التباينات الاقتصادية الحادة: يرى الاقتصاديون الكينزيون أن إعادة توزيع الثروة بشكل أكثر عدالة من خلال الضرائب التصاعدية، وبرامج الدعم الاجتماعي السخية؛ يمكن أن يعزز الطلب الكلي، ويحسن من صلابة الاستقرار الاجتماعي وتماسكه.
- التغير المناخي الكارثي: يدعو بعض المفكرين الاقتصاديين إلى تبني "كينزية خضراء" تركز على الاستثمار النوعي في مشاريع الطاقة المتجددة والبنية التحتية المستدامة عوضًا عن دعم الصناعات الملوثة للبيئة والمهددة لمستقبل الكوكب.
- التحولات الرقمية المتسارعة: مع صعود الاقتصاد الرقمي وهيمنته المتزايدة، يحتاج الاقتصاد الكينزي إلى استنباط استراتيجيات جديدة ومبتكرة لدعم العمالة في هذا القطاع الحيوي وتعزيز الإنفاق الاستهلاكي بما يواكب طبيعة الاقتصاد الرقمي المتغيرة.
وختامًا؛
- فإن جون ماينارد كينز لم يكن مجرد خبير اقتصادي تقليدي، بل كان مفكرًا ثوريًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حيث قدم حلولًا اقتصادية مبتكرة غيّرت وجه السياسات الحكومية في شتى بقاع العالم.
- وعلى الرغم من الانتقادات التي وُجهت لنظريته عبر مسيرتها الطويلة، فإن مبادئها الجوهرية لا تزال تمثل نبراسًا أساسيًا في إدارة الأزمات الاقتصادية المعاصرة والتخفيف من وطأتها.
- ومع استمرار التحديات الاقتصادية العالمية وتفاقمها يومًا بعد يوم، يبدو جليًا أن الاقتصاد الكينزي سيظل جزءًا لا يتجزأ من نسيج الاقتصاد الحديث ومستقبله المشرق.
المصدر: صندوق النقد الدولي
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة ارقام ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من ارقام ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.