أوضح المُفكّر الجزائري الدكتور عبدالرزاق بلعقروز، أنّ مصطلح التَّجربة، ساد في مجال الأبحاث العملية والعلمية؛ بمعنى الإجراء الذي بموجبه يكون التحقُّق من الفرضيات التي وضعها العقل من أجل تفسير الظَّاهرة موضوع البحث، مؤكداً أنَّ سيادة هذا المعنى، حجب معنى آخر للتَّجربة، يرتبط بالمجال السُّلوكي أو القَالبي، كتعبير عن تجلٍّ للبعد الذَّاتي أو القَلبي، كوننا ونحن في سياق حاجات الإنسان المعاصرة في سياق بحثه عن الإرواء الوجودي والسّكينة الرُّوحية، أكثر إفادة من المعنى السُّلوكي للتجربة من المعنى العلمي، لأنّ التجربة السُّلوكية أو تطبيق الأخلاق فعلياً، تفتح للعقل الآفاق الإدراكية الجديدة، وتُكْسِبُه اليقين والحسم في قضايا الخير والشر أو الصَّلاح والفساد.

ولفت إلى أن طلوع العدمية، التي تعني فقدان القيم العليا قيمتها، تجد أحد أسبابها في هذا النِّسيان والانحجاب عن السُّلوك كأداة فاعلة لأجل تجديد الذّات واستقامة الوجود، والانسياق في المقابل خلف الانفعالات كما يقول (رونيه ديكارت) في كتابه (انفعلات النّفس). فالانفعالات لا تحسم في مسائل الخير والشر، بل هي قفزات لا واعية من انفعال إلى انفعال، ويطرح ديكارت مفهوم (الأسلحة الخاصة بالإرادة) كأداة لأجل التحرر من النَّفسانيات المتقلِّبة.

‏وعدّ بلعقروز التَّجربة والتَّطبيق والممارسة، المسالك المفيدة لأجل الحسم في منهج السُّلوك والارتقاء نحو المعاني الإيجابية للحياة، لأنّ من خصائص العقل الذَّاتية المحدودية والنسبية، بمعنى أن ثمة حدوداً للتعقل الإنساني أو بلغة الفيلسوف الألماني (إيمانويل كانط): «ثمة استعمالات مشروعة وأخرى غير مشروعة للعقل، ومن مظاهر الاستعمالات غير المشروعة للعقل، الاعتقاد بأنه مصدر الحقيقة بإطلاق، في مجالات العقل النّظري وكذا العملي».

ويرى أنّ هذا الإقرار غير مشروع فلسفياً وأخلاقياً، وبالتَّالي، فإن تنمية الذات وتقوية العقل وبلوغ اليقين، إنما تكون عندما تسبق الفضيلة المعرفة، وعندما يدخل الإنسان في تجربة روحية فعلية، تحرره من تناقضات العقل، وتكسبه انسجام الوعي، ويبدو أن كثرة التنظيرات حول معاني اليقين الوجودي ومعايير الحقيقة، إنما ترجع إلى نسيان سؤال البدء من التجربة الفعلية، وليس من الاستنباطات النّظرية، ذلك أنّه في غمرة الاجتهاد العقلي، لابد من تصريف الفكر نحو الممارسة والتطبيق كي يستكمل الإنسان التّعالق المنسي بين النَّشاط الأخلاقي والنَّشاط المعرفي.

وأضاف: وعليه، فإن قوة المعرفة وزيادتها وإصابتها للحق، ليست تنحصر في الأنظار الفكرية والقياسات العقلية، بل إن دعامة الفعل الأخلاقي المتحقق بالأخلاق المحمودة، هي الذَّخيرة الكامنة في إمداد العقل وتوجيهه وتطويره، أو بلغة ديكارت: «إنَّ السلاح الخاص بالإرادة في سياق التحرُّر من الانفعالات النّفسانية، إنما هو الحسم في مسائل الخير والشر، بطريقة عملية وفعلية، فاللباس الروحي للذات بطريق التجربة والرياضات الرُوحية هو الذي يقوي العقل، ويجعله متيناً قوياً، ذو ميزة يقينية وليست ارتيابية كما هو الحال في أسلوب الحياة ما بعد الحداثية».